كان يفترض أن تكون السعودية إلى جانب قطر والإمارات محطات الرحلة الأولى التي يعتزم الرئيس الأميركي دونالد ترامب القيام بها إلى الخارج في منتصف شهر أيار المقبل. لكن وفاة البابا فرنسيس دفعت الرئيس الأميركي إلى تعديل برنامج زياراته الخارجية ويسافر إلى روما والفاتيكان للمشاركة إلى جانب عقيلته ميلانيا ووفد أميركي كبير في تشييع قداسة الحبر الأعظم مما وضع دول الخليج الثلاثة في المرتبة الثانية في سلم الزيارات الخارجية. لكن هذا الترتيب لن يقلل من أهمية هذه الزيارة التي تتزامن مع الذكرى السنوية الثامنة للرحلة الخارجية الأولى التي قام بها الرئيس ترامب إلى السعودية في أيار من العام 2017.
لماذا السعودية والإمارات وقطر
في معرض حديثه عن رحلته الخارجية الأولى قال الرئيس الأميركي إنه يفترض أن تكون بريطانيا الدولة الأولى التي سيزورها، بسبب العلاقات والروابط القوية بين الشعبين والبلدين أولاً، وبسبب الدعوة التي تلقاها ترامب من الملك البريطاني خلال استقباله رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في واشنطن في 28 شباط الماضي ثانياً. لكنه قال إنه سيذهب إلى السعودية في حال استثمرت تريليون دولار في الشركات الأميركية خلال السنوات الأربع المقبلة وهذا ما وافقت عليه السعودية على حد تعبيره. يذكر أن المسؤولين السعوديين كانوا قد تعهدوا باستثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة لكن الرئيس ترامب شجعهم على رفع حجم هذه الإستثمارات إلى تريليون دولار.
بعد زيارته الأولى للسعودية في العام 2017 خرج الخلاف السعودي الإماراتي مع قطر إلى العلن حيث أعلنت الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة في ذلك الحين قطع العلاقات مع الدوحة وإغلاق الأجواء والحدود أمامها الأمر الذي وصفته قطر بالحصار. وفي بداية النزاع وقف ترامب إلى جانب التحالف العربي في وجه قطر في حين حاول وزير خارجيته آنذاك ريكس تيليرسون، الذي عزله في ما بعد، اتخاذ موقف وسطي. لكن الخلاف الأميركي القطري تبدد قبل نهاية ولاية ترامب الأولى على يد وزير الخزانة حينذاك ستيفن منوشن وصهر ترامب جاريد كوشنير فيما استمر الخصام العربي مع قطر إلى أن انتهى في ما بعد بالتصالح وإعادة العلاقات إلى طبيعتها.
في ولايته الثانية يريد ترامب من خلال هذه الزيارة الموازنة بين أكثر الدول الخليجية الثلاثة الأكثر ثراء والتي تخاصمت في بداية عهده الأول. لذلك سيزور الرياض والدوحة وأبو ظبي وسيوقع على اتفاقات تجارية كبرى تساهم في إنعاش الاقتصاد الأميركي وتوفر فرص عمل لآلاف الأميركيين.
أحداث المنطقة وقضايا البحث
وتتزامن هذه الزيارة للرئيس الأميركي مع أحداث عديدة تشهدها منطقة الشرق الأوسط. أولها استمرار الحرب في غزة التي لعبت فيها قطر إلى جانب مصر دوراً أساسياً في المفاوضات بشأن وقف النار وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين واستمرار هذه المساعي. وثانيها بدء المفاوضات الأميركية الإيرانية بشأن التوصل إلى اتفاق جديد حول البرنامج النووي الإيراني. وكانت الإمارات هي من نقل الرسالة الأولى من الرئيس الأميركي إلى المرشد الأعلى الإيراني بشأن إجراء المفاوضات خلال شهرين حول برنامج إيران النووي وإلا التعرض لضربة عسكرية أميركية كبيرة.
كما أن زيارة ترامب الثانية إلى الخليج تتزامن مع ضربات عسكرية تقودها أميركا ضد الحوثيين منذ أسابيع من أجل إضعافهم وإخضاعهم على غرار ما فعلت إسرائيل بحزب الله وحماس- وبالتالي إستكمال تقليم أجنحة إيران في المنطقة وإعادة فتح خط الملاحة في البحر الأحمر الذي قطعه الحوثيون والذي كبد الاقتصاد العالمي خسائر كبيرة بفعل ارتفاع أسعار الشحن. وكانت إدارة ترامب مهدت لهذه الحملة العسكرية بإدراج الحوثيين على لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية. وهذه الضربات التي تستهدف الحوثيين تريح بالطبع دول الخليج وخصوصاً السعودية والإمارات اللتنن انخرطتا بشكل كبير في الحرب اليمنية ولأنها تضعف إيران ونفوذها في المنطقة.
وإضافة إلى توقيع الإتفاقات التجارية وتعزيز العلاقات الثنائية ومناقشة قضايا إيران وغزة واليمن وسوريا ولبنان والطاقة وقضايا دولية أخرى، سيشكر الرئيس الأميركي القيادة السعودية على الدور الذي لعبته في استضافة المحادثات الأميركية الروسية من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا. وفي حال نجحت هذه المساعي فستتمكن واشنطن من إضعاف التحالف الذي تعزز بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا وإيران على أثر الغزو الروسي لأوكرانيا. ويأتي الدور الذي تلعبه روسيا في الملف النووي الإيراني ليتماشى مع الموقف الأميركي الساعي للتوصل إلى اتفاق نووي أفضل مع طهران. كما أنه من غير المستبعد أن يتم البحث في الرياض بضمانات عسكرية أميركية للسعودية أو بشراكة أمنية أوسع وبعيدة المدى تتضمن الحصول على برنامج نووي مدني تطمح إليه المملكة منذ زمن. وهذا الأمر كانت إدارة بايدن قد ناقشته على مدى شهور مع السعودية لدفع عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل. لكن الأمر بقي معلقاً نتيجة إستمرار الحرب في قطاع غزة وعدم التزام إسرائيل بحل الدولتين وهو الشرط الذي وضعته الرياض لإقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة الإسرائيلية.
بين الأمس واليوم
في الرحلة الأولى جمع الرئيس الأميركي في السعودية عدداً كبيراً من القادة العرب في قمة غير مسبوقة على مستوى الحجم والتمثيل. لكن لم يعرف حتى الساعة ما إذا كانت قمة مشابهة ستعقد هذه المرة أيضاَ. وعلى عكس الرحلة الأولى لن يزور الرئيس الأميركي إسرائيل كما فعل سابقاً عندما افتتح الخط الجوي المباشر بين السعودية وإسرائيل عبر توجه الطائرة الرئاسية الأميركية إير فورس وان في رحلة مباشرة من الرياض إلى تل أبيب.
وفي الإمارات يتوقع أن يوقع الرئيس الأميركي على اتفاقات شراكة وتعاون وصفقات تجارية خصوصاً بعدما أعلن منذ أكثر من شهر خلال لقاء الرئيس الأميركي مع نائب حاكم إمارة أبوظبي مستشار الأمن الوطني الإماراتي، الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان في البيت الأبيض عن استثمار الإمارات العربية المتحدة مبلغ 1.4 ترليون دولار خلال السنوات الـ10 المقبلة في الاقتصاد الأميركي في مجالات البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والطاقة، والتصنيع.
أما زيارة قطر فتأتي بعد أسابيع قليلة على موافقة الخارجية الأميركية بشكل مبدئي على بيع القطريين ثماني مسيرات MQ-9B Predator بقيمة تصل إلى ملياري دولار. وتأتي موافقة إدارة ترامب على هذه الصفقة بعد مساعي كبيرة بذلتها الدوحة في عهد إدارة بايدن للحصول على هذه المسيرات ولكنها لم تنجح في ذلك.
رحلة ترامب الثانية إلى الخليج ستكون رحلة مفصلية. وبنجاحها سيتعزز الوجود الأميركي الإستراتيجي في الخليج والمنطقة وستتقدم الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب وستفرمل التمدد الصيني الهادئ في المنطقة. كما أنها ستعطي الرئيس الأميركي دفعة إقتصادية كبيرة في الداخل تساعده على تحقيق وعده الإنتخابي ب "جعل أميركا عظيمة من جديد".
الصحافي ميشال غندور