كتب الدكتور فيليب سالم عن البابا فرنسيس:
في لحظة فارقة من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والعالم بأسره، غيّب الموت قداسة البابا فرنسيس، تاركًا وراءه إرثًا لا يُقدّر بثمن من الإيمان، والإنسانية، والمواقف النبيلة التي تجاوزت حدود الأديان والانتماءات، ولامست ضمائر البشر في مختلف أنحاء الأرض. في هذا اليوم الذي يحيي فيه المسيحيون في كل انحاء العالم صعود المسيح الى السماء وجلوسه عن يمين الآب اختار بابا روما ان يصعد معه الى السماء ويكون شاهدا على مجد الآب ومحبته لجميع البشر.
لم يكن البابا فرنسيس مجرد رأس للكنيسة، بل كان ضميرًا حيًّا للعالم أجمع. رجل اختار أن يكون صوتًا للفقراء والمظلومين والمهمشين، وأن يناضل ضد الظلم بنبرة مغمورة بالحب والرجاء. لقد أعاد إلى الكرسي الرسولي بريقه الأخلاقي، وحوّل دوره إلى منبر عالمي يدعو للحوار والانفتاح، بدلاً من العزلة والانغلاق.
تميز البابا فرنسيس بشجاعة فكرية نادرة، حيث تحدّث بصراحة عن الأزمات المعاصرة، بدءًا من التغير المناخي، وقضايا الهجرة، وصولاً إلى الفقر المدقع، وصراعات الهوية والدين. لم يكن صوته مقتصرًا على روما فقط، بل كان صدىً يُسمع في كل زاوية من زوايا العالم، يحمل هموم الإنسانية جمعاء.
في كل موقف، وفي كل زيارة، وفي كل صلاة، كان البابا فرنسيس "الإنسان"؛ رجلًا نزل من على عرشه الكنسي ليكون بين الناس، يسير معهم، يسمع آلامهم، ويشاركهم أحلامهم بعالم أكثر عدلاً وسلامًا.
وُلِد خورخي ماريو برغوليو في الأرجنتين عام 1936، في عائلة متواضعة من أصول إيطالية. التحق بالرهبنة اليسوعية، وكرّس حياته للكهنوت والتعليم والرعاية الروحية. في عام 2013، تم انتخابه ليكون البابا رقم 266 للكنيسة الكاثوليكية، ليكون أول بابا من أميركا اللاتينية. ومنذ لحظة انتخابه، اختار اسم "فرنسيس" تيمّنًا بالقديس فرنسيس الأسيزي، رمز الفقر والسلام، وهو ما عكس بوضوح توجهه الروحي والإنساني.
عُرف قداسة البابا فرنسيس بدعمه الكبير للبنان في أحلك الأوقات. ففي ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان، كان البابا الصوت الذي لا يكل في دعمه للشعب اللبناني. لم يتوانَ عن تأكيد دعمه للبنان كدورٍ مميز في المنطقة، وجعل من لبنان أولوية في رسالته العالمية. من خلال دعوتة الشهيرة لعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان، سعى البابا إلى أن يكون لبنان نموذجًا للتعايش المشترك، وقيم التسامح، والعدالة الاجتماعية.
كما كان حريصًا على توجيه نداءات متعددة للحفاظ على الهوية اللبنانية الفريدة، القائمة على التنوع والاعتدال. وقد تجسد هذا الدعم في زيارته التاريخية إلى لبنان، حيث عبّر عن تعاطفه العميق مع الشعب اللبناني، وشدد على أهمية الوقوف مع لبنان في محنته، والدعوة لتضامن دولي حقيقي يساعد في إعادة بناء البلد على أسس من السلام والعدالة.
اليوم، مع إعلان رحيله، يشعر الملايين في كل أرجاء العالم بأن نورًا خافتًا قد انطفأ. ولكن رغم ذلك، ستظل ذكراه، ومواقفه، وقيمه، مشعّة في ذاكرة الإنسانية، وفي قلب كل من يؤمن بأن الدين في جوهره رسالة محبة، وأن الزعامة الحقيقية تكمن في الخدمة لا في الاستغلال.
رحل البابا فرنسيس، ولكن صوته سيظل حيًّا، يوقظ الضمائر، ويذكّرنا بأن القوة الأعظم ليست في السلطة، بل في الرحمة.