Oct 09, 2018 7:24 AM
صحف

اصحاب المولّدات يشفطون الملايين

وضعت وزارة الاقتصاد الناس أمام وهم. أوحت أن الدولة حاضرة لحماية حقوقهم، لكنها دخلت من الباب الخطأ. الحصول على سعر عادل ‏للكهرباء المنتجة عبر مولّدات الأحياء ليس هو الحق الذي ينشده المواطنون، فحقهم على الدولة أن تؤمن هي الكهرباء، بدل أن تكتشف بعد ‏عشرات السنين من انتشار المولدات غير القانونية أن هذا القطاع بحاجة إلى تنظيم، فتتدخل لتنظيمه، منتجة بتدخلها أكلافاً فورية سيدفعها ‏المواطنون، وتعويضات مالية مسبقة لأصحاب المولدات، بعشرات ملايين الدولارات‎! 
في عام 2018، تفاخر السلطة بتنظيم قطاع المولدات، الذي يفترض أن يكون قد انقرض منذ سنوات، لو نُفّذت الوعود المتكررة بكهرباء 24 ‏‏/ 24. ليست وزارة الاقتصاد هي المسؤولة عن هذا العجز المشبوه، لكنها وُضعت في الواجهة لتوحي بأن الدولة حريصة على الناس ‏وعلى تخفيف الأعباء عنهم، فكانت الرسالة الفعلية إعلان الفشل في تأمين أي من مستلزمات المواطنين، وأولها الماء والكهرباء. حماسة ‏العاملين في وزارة الاقتصاد لن تغطي على نظام متهالك يبحث عن إنجازات زائفة هنا وهناك، كي يداري سقوطه‎. 
ولأنه لا إنجازات تقدم للناس، كان قرار تركيب العدادات لدى المشتركين في المولّدات الموزّعة في الأحياء هو الإنجاز. أصرّت وزارة ‏الاقتصاد عليه بوصفه واحداً من واجباتها "لحماية المستهلكين ورفع مستوى الخدمات المقدمة لهم"، ودعمتها وزارات عدة، أولاها وزارة ‏الداخلية، فكان التأكيد وما زال: قرار وزير الاقتصاد نهائي ولا مجال لعدم تنفيذه، وبالتالي فإن "على أصحاب المولدات تركيب العدادات ‏ونقطة على السطر‎". 
سريعاً تبين أن النقطة لم تنه النقاش، وأن أصحاب المولدات الذين راكموا الأموال على مرّ السنين، مستغلين غياب الدولة، ليسوا سوى ‏انعكاس لهذا النظام. هم أقوياء. ولأنهم كذلك، يمكن القول إن وزير الاقتصاد رائد خوري تسرّع عندما أعلن أنه "لا مزيد من المفاوضات مع ‏أصحاب المولدات"، فالمفاوضات لا تزال مستمرة وتطال السعر والتكاليف، ويُضاف إليها وعود بإلغاء محاضر الضبط بحق بعض ‏المخالفين، في حال التزموا بقرارات الوزارة (يملك وزير الاقتصاد صلاحية إجراء التحقيق الإضافي، الذي يسمح بإلغاء العقوبة في حال ‏عاد المخالف عن مخالفته). مع ذلك، كان يمكن وصف ما يحصل منذ الأول من تشرين الأول، تاريخ بدء سريان قرار وزير الاقتصاد، ‏بالإيجابي، لأن أصحاب المولدات، في أغلبهم، اقتنعوا بأن لا بديل من تنفيذ القرار. لكن هذا التنفيذ سيتم بشروط أصحاب المولدات التي ‏وافقت الوزارة على معظمها‎. 
ترفض مصادر مسؤولة في الوزارة اتهامها بالتراجع. تعيد التأكيد أن قرار تركيب العدادات لا رجعة عنه، لكنها في المقابل تشير إلى أنه لا ‏يمكنها أن تصرّ على رفض "المطالب المحقة أو المنطقية. لكن ما يمكن فعله وفعلته هو وضع ضوابط لهذه المطالب"، كمطالبة أصحاب ‏المولدات للمشتركين بدفع "مبلغ تأمين" لضمان "حقهم" (أصحاب المولدات) في حال تخلف المشترك عن الدفع. وبعد "تطوّعها" لتنظيم ‏قطاع المولدات العشوائي، انتقلت الوزارة إلى تنظيم بند "مبلغ التأمين" العشوائي بدوره. فأصحاب المولدات بدأوا بفرض المبلغ على ‏المشتركين، فاختلفت قيمته من منطقة إلى أخرى، من دون أن يقل عن 100 دولار عن كل 5 أمبير. ولأجل ذلك، ما كان من الوزارة سوى ‏أن تتدخل، عبر القرار الذي أصدره خوري، أمس، لتحديد قيمة "التأمين" بـ100 ألف ليرة عن أول 5 أمبير، على أن يُضاف 75 ألف ليرة ‏عن كل 5 أمبير إضافية. يعني ذلك أنه بات على كل أسرة أو مؤسسة دفع مبلغ 100 ألف ليرة لصاحب المولد، كـ"تأمين لضمان حق" ‏الأخير‎! 
لكن قبل الضبط، لماذا التأمين في الأساس؟ ألم يكن المشتركون يدفعون بدل اشتراكهم في نهاية الشهر، أي بعد استهلاك الكمية وتحديد ‏وزارة الطاقة عدد ساعات القطع وثمن كل ساعة تقنين في الشهر الذي سبق؟ تبرر الوزارة بأن الأقلية من أصحاب المولدات كانت تعمد إلى ‏ذلك، فيما كانت الأغلبية الساحقة تضع فاتورة مسبقة في أول الشهر، لكن بناءً على التعرفة المحددة من الوزارة عن الشهر الذي سبق، ‏وهكذا دواليك. ولأن ذلك لن يكون متاحاً بعد تركيب العدادات (التعرفة تحدد على أساس الاستهلاك)، كان لا بد من التأمين، ربطاً بإحصاءات ‏تشير إلى أن عدد الذين يلغون اشتراكهم شهرياً ليس بسيطاً، ما يزيد من مخاطر عدم الدفع! هكذا تحوّلت الوزارة من ساعية إلى ضمان ‏‏"حقوق المستهلكين"، إلى حريصة على حقوق أصحاب المولدات، ومبشِّرة بضرورة حمايتها من "تعديات" المستهلكين الذين كان يجب ‏على الدولة أن تؤمن لهم الكهرباء 24/24، وتعفيهم بالتالي من ذل اللجوء إلى المولدات وكلفته العالية‎. 
أما بشأن التمديدات التي حدد بعض أصحاب المولدات سعرها بنحو 115 ألف ليرة، فقد خفّضتها الوزارة في قرارها الملزم إلى 50 ألف ‏ليرة بالحد الأقصى، "بعد إبراز كافة الفواتير اللازمة التي يجب أن تكون من المصدر وليس من صاحب المولد". وهذا المبلغ مرتبط ‏بضرورة نقل علب الكهرباء المثبّتة على أعمدة الكهرباء، على سبيل المثال، إلى مداخل الأبنية. أي إن مبلغ التمديد يفترض أن ينخفض إلى ‏الصفر في حال كانت العلب في مداخل الأبنية، خاصة أن القرار ينص على أن يتحمل صاحب المولّد تكلفة العدادات (يمكن للمشترك أن ‏يشتريها على نفقته على أن يحسم بالتقسيط من فاتورة المولد‎). 
ما تقدّم يعني كلفة يجب على الأسر وأصحاب المؤسسات الصغيرة دفعها، فوراً. السعي إلى خفض كلفة الاشتراك أمر محمود بطبيعة الحال. ‏لكن تنفيذه وحده، وبلا خطط واضحة، قد يشكّل عبئاً إضافياً على السكان، وعلى الدولة معاً (ربما يلجأ مشتركون إلى نقل جزء من استهلاك ‏الكهرباء من المولدات إلى "كهرباء الدولة"، ما يعني زيادة كلفة الانتاج في مؤسسة كهرباء لبنان، وتالياً، كلفة الدعم). لكن أخطر ما في ‏نتائج العمل العشوائي لوزارة الاقتصاد هو تضمنه جمع مبلغ بعشرات ملايين الدولارات، ووضعه في جيوب أصحاب المولدات. فبافتراض ‏أن نصف المشتركين في مؤسسة كهرباء لبنان (مليون و400 ألف مشترك) مشتركون أيضاً في المولدات، فهذا يعني أن 700 ألف منزل ‏ومنشأة سيكون كل منهم مضطراً إلى دفع مبلغ 100 ألف ليرة على الأقل، ما يعني أن 70 مليار ليرة لبنانية (أكثر من 46 مليون دولار ‏أميركي) ستنتقل فوراً إلى جيوب أصحاب المولدات! ورغم أن هذا المبلغ سيُعدّ بمثابة "مبلغ تأمين" مستحَق للمشتركين، إلا انه لا ضمانة ‏باسترداده مستقبلاً، ولم تجد الوزارة نفسها معنية بضمانه، فيما هي قررت إلزام المشتركين بضمان "حقوق أصحاب المولدات"! فضلاً عن ‏أن نقل مبلغ بهذا القدر إلى أصحاب المولدات، سيمكّنهم من استخدامه للحصول على ما يشبه "التعويض المسبق" عن الاستغناء عنهم بعد ‏سنوات، في حال تمكّنت الدولة من تأمين إنتاج مستقر للكهرباء يغطي كل الأراضي اللبنانية، 24 ساعة يومياً‎.‎‎ 
قبل ذلك، تمثلت الخطوة الأولى التي خطتها الدولة إلى الوراء متراجعة أمام أصحاب المولدات، برفع سعر الكيلو واط. مع تنفيذ القرار لم ‏يعد السعر بين 300 ليرة و350 ليرة، بل قفز إلى ما بين 410 ليرات و450 ليرة. صحيح أن أصحاب المولدات كانوا يطالبون بأن يكون ‏السعر 600 ليرة، مع استعدادهم للوصول إلى اتفاق وسطي يقضي بأن يكون سعر الكيلوواط 500 ليرة، إلا أن السعر الذي أقرّ لم يختلف ‏كثيراً عن مطلب أصحاب المولدات، أضف إلى أن الوزير كان وعد في الاجتماع الذي عقد الأسبوع الماضي، أن "التسعيرة التي تصدر ‏عن وزارة الطاقة شهرياً ستجرى لها دراسة جديدة"، ما يعني إمكانية رفعها أكثر. وهو ما أكدته مصادر الوزارة، مع تقليلها من أهميته، إذ ‏أشارت المصادر إلى أنه حتى لو وصلت التعرفة إلى 500 ليرة (تحددها وزارة الطاقة)، فإن تكلفة الـ5 أمبير، على افتراض استعمالها ‏كاملة، ستعني دفع فاتورة تعادل 100 ألف ليرة‎!
في هذا القطاع، يلعب الوزير رائد خوري الدور الذي يهواه: "الناظم" بين القطاع الخاص الهادف إلى تضخيم أرباحه، والمواطنين ‏المضطرين إلى اللجوء إلى هذا القطاع، لأن "الدولة" قررت ألا تقوم بواجبها الاول، وهو تأمين الخدمات للسكان. وبدلاً من ذلك، تقف إلى ‏جانب القطاع الخاص، ولو كان غير قانوني، منتحلة صفة الحريص على حقوق المواطنين، لينتهي تدخّلها بالخضوع لابتزاز "أصحاب ‏الأموال"، تحت عنوان خفض الكلفة على المستهلكين، لكن بتحميل الأسر نفقات فورية كانت في غنى عنها‎.‎

"الاخبار"

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o