"الإصبع على الزناد"… والعدسات في المرصاد
ليس مبالَغَةً قولُ إن لبنان تحوّلَ صالةَ انتظارٍ كبرى لمُراسلين من مختلف دول العالم يترقّبون، كما أبناء «بلاد الأرز» وعموم المنطقة، حلولَ «الساعة صفر» لردّ «حزب الله» وإيران على إسرائيل لاغتيالها قبل أسبوعيْن القيادي الكبير في الحزب فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت ورئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في طهران.
وفيما أنظارُ العالم كانت شاخصةً على الردّ وهل يكون بين 12 و13 الجاري، أي في التوقيت نفسه وضمن المهلةِ عيْنها التي تطلّبتْها هندسةُ إيران ضرْبتها المباشرة في 13 أبريل الماضي التي لامستْ «خدّ» إسرائيل على خلفية استهداف قنصليّتها في دمشق، فإنّ وضعيةَ «الإصبع على الزناد» لكلٍّ من «حزب الله» وإيران لتنفيذ «الثأر»، معاً وبالتزامن أو كلاً بمفرده، واكبتْها يدٌ على زر الكاميرا وعدساتٌ بالمرصاد لـ «جيشٍ» من صحافة عربية وأجنبية أكملت الجهوزيةَ لتكون على الموعدِ عندما تنطلق صافرة بدء الردّ الذي لا أحد يملك جواباً حاسماً حول هل ستكتفي إسرائيل باعتباره حقق «التعادل بالدم»، أم سيكون فاتحةَ أيام قتالية خارج الضوابط المعتمَدة منذ 7 أكتوبر أو مرحلةٍ من الضربات المتبادلة ستتدحْرج على جبهتيْ لبنان وإيران.
وعلى وقع تقديراتٍ بأنّ ثمةَ «فصْل مساراتٍ» بين ردّ «حزب الله» وإيران وبين الاستئناف المفترَض للمفاوضات حول وقف النار في غزة بعد غد، رغم الـ «لعم» من حركة «حماس»، زاد مراسلو وسائل الإعلام العالمية «تزييتَ» كاميراتهم التي باتت «مصوَّبةً» على الأرض، في بيروت وعلى مشارف الضاحية الجنوبية كما في الجنوب اللبناني، لتكون على أهبة الاستعداد لنقْل الحَدَث مباشرة.
… كلهم مستنفَرون والتحضيراتُ اللوجستية أُنجزت، وجزء كبير منها يَستعيد «بروتوكولاتٍ» سابقة اتُخذت إبان حرب الـ33 يوماً في يوليو 2006 وكأنها اليوم تجربةٌ مكرَّرة وإن بمراسلين جدد ومعدّات أكثر تطوراً.
ففي الوقت الذي ضربت المناخات الحربيةُ الموسمَ السياحي مع مغادرة السياح الأجانب (كما المغتربين) لبنان على وجه السرعة على وهج تحذيراتِ سفاراتهم بوجوب ترْك «بلاد الأرز» الآن وليس غداً، شهدت بيروت حركةً لافتة معكوسة للوافدين من العاملين في مختلف وسائل الإعلام العالمية خصوصاً منذ مجزرة مجدل شمس واتّهام إسرائيل لحزب الله بالوقوف ورائها والتوعّد بردٍّ عليها أتى مركّباً في الضاحية الجنوبية وطهران.
وظهرتْ طلائعُ هذا الحضور و«التدفّق» بعيد الضربة الإسرائيلية التي استهدفتْ الضاحية وأدّتْ الى اغتيال شكر (30 يوليو) حين هَرَعَ مُراسِلون ومصوّرون تابعون لمحطات أجنبية وعربية إلى المكان لتغطية الحدَث. فكان مفاجئاً رؤية ميكروفونات محطة CNN في معقل «حزب الله» الى جانب قنوات عالمية أخرى لم تعتد سابقاً التواجد في بيروت.
ويؤكد أحد المصوّرين اللبنانيين الموجودين دائماً في قلب الحَدَث لـ «الراي» «بتنا نرى جنسيات كثيرة وبأعداد كبيرة على الأرض ونشهد وجوداً لمحطات أجنبية غير معهودة. وهذا الحضور أثار حفيظة البعض في الضاحية الجنوبية حيث تهجّم عدد من الشبان على مراسلة محطة أميركية معروفة».
وعقب استهداف الضاحية ودخول لبنان والمنطقة في مدارِ ردٍّ حتمي، ازداد التهيؤ الإعلامي لِما سيكون. وبعدما نصبت وكالة «رويترز» كاميراتها في أحد الفنادق في بلدة «سن الفيل» الواقعة على تلة صغيرة مطلة على بيروت والضاحية الجنوبية استعداداً لنقل أي ضربة او غارة إسرائيلية على المنطقة، ركّزت محطة «الجديد» اللبنانية كاميراتها أيضاً على تلة في منطقة بعبدا المشرفة بشكل كامل على الضاحية الجنوبية تُعرف باسم «المعهد الأنطوني» وكانت إبان حرب يوليو 2006 نقطةَ تجمُّع للصحافة الأجنبية تنقل عبرها صورةَ ما يتعرض له معقل «حزب الله». ويبدو أن هذه النقطة تعود اليوم لتشكل محطة «استراتيجية» لوسائل الإعلام الأجنبية.
وفي تواصلٍ لـ «الراي» مع مراسلين لبنانيين موجودين في الجنوب منذ بدء «حرب المساندة» لغزة، أكدوا أن المنطقةَ تشهد توافداً كبيراً لوسائل الإعلام الأجنبية. وتروي إحدى المراسلات التي تعمل في محطة عربية أن الصحافيين المتمركزين في الجنوب منذ بداية الحرب تعوّدوا الإقامة في الفندق الموجود إما في بلدة رميش وإما إبل السقي وإما في مرجعيون، مع حضورٍ لهم في استراحة صور التي يَعتبرونها «خطةً بديلة». ولكن اليوم تقول المراسلة، فإن هذه الفنادق أصبحت ممتلئة بالأجانب، من أميركيين وأوروبيين وأتراك وآسيويين وروس وغيرهم، حتى ان بعض المحطات الأجنبية لجأت الى استئجار بيوت في المنطقة لطواقمها. كما إن إدارات العديد منها أمّنتْ لهم خدمة «واي فاي» من خارج لبنان ليتمكّنوا من التغطية واستخدام الإنترنت في مختلف الظروف. وثمة أطقم تقنية موجودة في قبرص وجاهزة للانتقال الى لبنان عند أي طارئ إضافة الى أطقم اتّخذت من بيروت والمناطق القريبة منها، مثل المتن، مراكز لها.
وهذا الحضور الكثيف لم يمر مرور الكرام عند بعض اللبنانيين الذين رأوا فيه وجوداً استخباراتياً أجنبياً. حتى ان أحد المواطنين نشر تغريدة على منصة «اكس» كتب فيها:«مراسلون أجانب في لبنان يتنقلون بسيارات مصفّحة مع حرّاس أجانب وأجهزة اتصالات مباشرة مع الخارج. بلد مستباح لكل جواسيس العالم».
المراسلون الأجانب وأطقم العمل المُرافِقة لهم من مصوّرين وفنيين الموجودون في الجنوب اللبناني يَعرفون عملهم جيداً ومع مَن يتعاطون، ويدركون حساسيةً المنطقة كما خطورة ردات الفعل الإسرائيلية. فهم لم ينسوا بعد مقتل المصور عصام العبدالله وإصابة مراسلة وكالة الصحافة الفرنسية كريستين عاصي ومعها المصور ديلان كولنز بقصفٍ من دبابة إسرائيلية، ولا مقتل المراسلة الشابة فرح عمر ومعها المصور ربيع المعماري باستهداف إسرائيلي. ولذلك هم يتخذون احتياطاتهم جيداً كما يروي مراسل أحد القنوات اللبنانية وينسّقون بشكل مباشر مع الجيش اللبناني و«اليونيفيل» كما مع حزب الله للحصول على تصاريح للدخول الى القرى والبلدات المستهدَفة او التي تشهد حدثاً أمنياً أو عسكرياً.
ورغم حماستهم لتغطية ما يتعرّض له الجنوب والخروج بتقارير وتحقيقات صحافية مختلفة لنقلها الى الرأي العام في بلدانهم، فإن المراسلين الأجانب باتوا كما المراسلين المحليين يتهيّبون الخطَر ويتجنّبون التواجد في النقاط المتقدّمة التي لم يعد باستطاعة اي صحافي الدخول إليها إلا في حالات التشييع وبعد أخذ موافقة أكثر من جهة. وعدا ذلك فهم ينقلون رسائلهم من أماكن مطلة على القرى الحدودية كما يحاولون نقل معاناة الناس في القرى الجنوبية.
لكن رغم وجودهم بعيداً عن مناطق الاشتباكات المباشرة واعتياد بعضهم على تغطية الحروب، إلا ان الكثير من المراسلين الأجانب يشهدون في الجنوب اللبناني على أحداث مخيفة لا شك تترك فيهم أثراً لا يُنسى. فقد شاهد مراسل «فرانس برس» في صيدا عند مدخل مخيم عين الحلوة – أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان – سيارة اندلعت فيها النيران وروى أن سيارات الإطفاء عملت على إخمادها قبل أن ينتشل المسعفون جثة متفحمة من السيارة تبيّن لاحقاً أنها تعود الى مسؤول الأمن لدى حركة حماس في «عين الحلوة» سامر الحاج.
وزارة الإعلام اللبنانية تسهل للصحافيين الأجانب مَهمة المجيء الى لبنان وتوفّر لهم كل التسهيلات الإدارية الممكنة وتطلب منهم في المقابل الالتزام الدقيق بصحة المعلومات التي يقدمونها.
وفي لقاء مع رئيس قاعة المراسلين العرب والأجانب في وزارة الإعلام اللبنانية محمد ملي شرح لـ «الراي» أن عدد الصحافيين الأجانب والعرب في لبنان يُعَدّ اليوم بالمئات وربما تخطى 700 ولا يمكن ضبط العدد بالتحديد نظراً الى حركة المغادرة والعودة المستمرة للكثيرين منهم، وذلك تبعاً لقانون إقامة الأجانب الذي يفرضه القانون اللبناني أو لمتطلبات عملهم.
ويؤكد ملي أن عدد الصحافيين الأجانب أكثر من العرب «لأن عدداً كبيراً من المحطات العربية لها مكاتب في بيروت مع موظفين دائمين. وقد بدأ الأجانب بالتوافد منذ بداية الأزمة في أكتوبر، لكن الأعداد ازدادت بشكل واضح في الأسبوعين الأخيريْن».
عملية قدوم الصحافيين الأجانب والعرب الى لبنان تَستوجب الحصول على تصريح مسبق من وزارة الإعلام. ويقول المسؤول عن هذه التصاريح محمد ملي إن المتقدمين لنيل التصاريح كانوا يطلبون تصريحاً موقتاً لأسبوع او اثنين «واليوم الصحافيون يطلبون تصريحاً لشهر مع إمكان التمديد وذلك حسب الفيزا أو الإقامة التي نالوها، وبعضهم يغادر ثم يعود لأن الإجراءات تتطور وفق تطوّر الأوضاع».
لكن أهمّ ما يؤكد عليه ملي أن وزارة الإعلام لا تمنح أي تصريح قبل التأكد من كافة المعلومات وصحّتها، أي ما هي وسيلة الإعلام الأجنبية التي يمثّلها المراسل أو المصوّر وجنسيتها وعنوانها، ومن ثم رقم جواز سفر الصحافي الأجنبي وعنوان إقامته في لبنان ورقم هاتفه ووظيفته. ويمكن تقديم الطلب مسبقاً وملء الاستمارة عبر البريد الإلكتروني لتسهيل أمر الحصول على التصريح.
على أن ثمة معوقات تمنع الحصول على تصريح إذ إن الوزارة بحسب ملي لا تمنح التصاريح إلا للعاملين في وسائل إعلام مطبوعة أو مرئية أو مسموعة مثل محطات التلفزيون والإذاعات، أما كل ما هو اونلاين او رقمي فلا يتم إعطاء تصريح للعاملين فيه. وكذلك يُمنع التصريح عن الصحافيين الذين يعملون لحسابهم الخاص free lancer اذ إن الموافقة على التصريح تقتضي ان يكون الطلب باسم المؤسسة الإعلامية التي توجّه رسالة موقّعة باسمها. ويكون التنسيق كاملاً بين قاعة المراسلين العرب والأجانب في وزارة الإعلام وبين الأمن العام اللبناني وهو الجهة الرسمية المكلّفة بمنح التأشيرات والإقامات في لبنان.
ويقول ملي إنه «تتم مقارنة مدّة التصريح مع تاريخ بدء الفيزا وانتهائها، وكل تمديد في الأمن العام للإقامة يستوجب طلب تصريح ثانٍ، وعادة لا يخدم التصريح الممنوح لأكثر من شهر إلا إذا كان الصحافي حاصلاً على إقامة لمدة ثلاثة أشهر كما هي الحال بالنسبة للأردنيين أو الأتراك مثلاً. وكذلك تعمل غرفة الصحافة الأجنبية على مساعدة الصحافيين في الحصول على إجازة عمل وإقامة لمَن يرغب، مع إسداء النصائح الضرورية حول المعاملات والأوراق المطلوبة.
كذلك يتم العمل بشكل وثيق مع الجيش اللبناني لا سيما في ما خص الحصول على موافقة للتوجه الى أماكن القتال في الجنوب حيث يُطلب الى الصحافي الأجنبي الحاصل على تصريح وزارة الإعلام التواصل عبر البريد الإلكتروني مع الجيش اللبناني وتقديم جواز سفره مع الفيزا الممنوحة له وصورة عن الوصل المالي الذي تم تحويله وهو بقيمة 50 دولارا».
وتبعاً لخبرته الطويلة مع الصحافة الأجنبية في لبنان يروي ملي أن بعض الصحافيين الأجانب يَعتبرون القدوم الى لبنان فرصةً ويفرحون بمهمتم فيه كونهم يحبّون البلد وأهله وكل ما فيه. ويقول «لا شك ان الاهتمام بالوضع اللبناني والتهافت على المجيء الى بيروت اليوم ازداد من مختلف دول العالم، من الشرق الأقصى، من اليابان وكوريا والصين عبر وكالة شينخوا الرسمية، وروسيا كما من أوروبا والأميركيتين وتركيا، ويحاول الصحافيون موافقةَ موعدِ قدومهم مع مواعيدِ شركات الطيران الآتية الى لبنان. علماً أن وكالة الصحافة الفرنسية لم تَعُدْ توفِد أي مراسلين إلى الجنوب منذ إصابة المصوّرة كريستينا عاصي ومصوّر الفيديو في الوكالة نفسها ديلان كولنز».
رغم ما يَعنيه هذا التهافت من اضطرابٍ في أحوال لبنان ووقوفه على شفير الحرب إلا أن حضورَ مئات الصحافيين الأجانب الى بيروت ربما يكشف عن وجهٍ آخَر أقل قتامة وسط المشهد العام. فهؤلاء ينفقون مبالغ مالية لبنان في أمسّ الحاجة إليها. إذ أولاً يدفعون رسْم تأشيرة الدخول ثم رسْم الحصول على الإقامة او تجديدها، كما أنهم يقيمون في فنادق كبرى في العاصمة ولا سيما في مناطق الحمرا، الأشرفية، والجميزة مار مخايل.
وغالباً ما يستعينون بمُرافق خاص يطلق عليه اسم fixer لمساعدتهم على إتمام المعاملات والتنقل في لبنان، كما يستعينون بسيارات وسائقين، وقد يستأجرون بيوتاً، ويرتادون المطاعم، إضافة الى ما ينفقونه من مصروف شخصي.
المصدر: الراي الكويتية