Apr 20, 2022 4:55 PM
خاص

روي نسناس.. الأسطورة أكبر من الخسارة والذكرى

المركزية-  ثقيلة تبدو الخسارات في لبنان، وإن كان  هذا الوطن الصغير اعتاد التعايش مع الرحيل، المباغت منه بشكل خاص، إلى حد التطبيع التام معه والتمتع بقدرة هائلة على المضي قدما... من دون أن يعني ذلك نسيان الراحلين على حين غرة.

"ثقيلة" تبدو الكلمة الأفضل لوصف الخسارة المزدوجة التي مني بها لبنان وحقله الطبي يوم الاثنين الفائت. كيف لا وقد وجد نفسه فجأة مضطرا إلى وداع إثنين من أشهر أطبائه: النائب السابق بيار الدكاش والبروفيسور الذائع الصيت عالميا روي نسناس؟

نعم! في غضون ساعات قليلة سجل قدرنا الأسود هدفين أتيا ليذكرنا بما لا مجال لننساه لحظة: مساحات الفرح والسعادة  ضيقة جدا في لبنان، حيث الغلبة للمرض والفقر والتعاسة والذل. معادلة تيقن منها الدكاش، الذي لقب عن حق بطبيب الفقراء، الذي لم يسمح للفقر والعوز أن يدمرا صحة أناس لا ذنب لهم سوى أن حظهم العاثر رمى بهم في هذه البلاد التي غالبا ما لا تحترم الانسان ولا كرامته ولا أبسط حقوقه ولا تقيم له قيمة ووزنا إلا... في المواسم الانتخابية... 

أمام واقع كارثي كهذا، لم تختلف الصورة عن البروفسور العالمي روي نسناس، صاحب السجل الطبي المشرف، والاسم اللبناني المضيء في دنيا الطب، حيث السباق بين المعرفة والزمن طويل ودائم... كما الدكاش، وقف نسناس إلى جانب مرضاه في السراء والضراء، إلى حد أن بعضهم تحدث لوسائل الاعلام عما سموها "العلاقة المميزة" بينهم وبين الطبيب الراحل، الذي لم يكن يدخر جهدا ولا سلاحا طبيا في سبيل وضع من يلجأ إليه بحثا عن حياة جديدة بعيدة من الألم... على سكة الصحة والسلامة. وهو رهان كسبه الرجل بطبيعة الحال، فنجح في إنقاذ حياة كثيرين ممن اعتبروا المواجهة مع المرض انكسارا للإنسان في وجه موت محتم. لكن نسناس (وهو أب لثلاثة أولاد ونسيب الرئيس السابق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي روجيه نسناس) قدم نظرة أخرى: الطب والمعرفة وجدا ليوضعا في خدمة الانسان وصحته وفرحه، وهو ما يفسر الأبحاث الكثيرة التي قادها هذا الاخصائي في الأمراض الجرثومية وتلك المعدية... حتى أن شغفه في المعرفة الطبية قاده إلى كبريات كليات الطب حول العالم. لكنه لم يدر ظهره لوطنه الأم، مع العلم أن هذا الأخير كاد يسلبه حياته في ذلك الثلثاء الأسود 4 آب 2020، حيث نجا بأعجوبة من انفجار مستودع نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، فيما كان يزاول مهنته النبيلة، أو بالأحرى يمارس شغفه الأول، في المستشفى اللبناني الجعيتاوي في الأشرفية، الذي انتقل إليه عام 2018، بعد مسيرة طويلة في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس. 

وإذا كان أحد لا يشك في أن نجم البروفسور نسناس سطع بقوة في خلال فترة الحجر الصحي في مواجهة وباء كورونا عام 2020، حيث  تحول إلى نجم الشاشات والمنابر ومد الرأي العام بالتوجيهات والارشادات في مواجهة المرض، فإن كثيرين لا يعرفون أن الرجل يقف وراء استحداث القسم الخاص بهذا المرض في المستشفى الجعيتاوي الذي كان آخر الشهود على مهارته وتفانيه في ممارسة مهنة الطب...

على  أن المفارقة تكمن في أن الطبيب الطيب الذي جابه الكورونا بالمعرفة والعلم والحقائق الدامغة، لم يخض في مواجهتها معركة انتهت إلى غياب قاتل. بل إن حربه الأخيرة كانت في مواجهة سرطان البنكرياس... فالقدر لا يعترف بالعلم والأدوية والعلاجات... يقول كلمته ويمشي تاركا المرض ينهش في جسم إنسان لم يستسلم منذ البداية... بل رفع الراية البيضاء بعد عام ونصف العام... راكبا قطار الرحيل...

لكن هناك ما لا يغيره قدر: الذكرى والذاكرة... ففي حضرة الكبار من طينة البروفسور العبقري روي نسناس، لا مكان للحزن والغياب... في حالات كهذه، يتحول الموت مجرد محطة للعبور إلى دنيا الحياة الأبدية وإلى ذاكرة وطن تحفظ بالتأكيد مكانا لما سماه مودعو نسناس في بطريركية الروم الكاثوليك "الاسطورة"، في حضور ممثل رئيس الجمهورية الذي قلده وساما. على أن هذا الأخير أتى متأخرا جدا... فالراحل سبق أن نال تكريما أسمى وأعلى شأنا: يكفيه فخرا أن اسمه سيتردد طويلا على ألسنة الناس، مقترنا ببسمة فرح...     

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o