Mar 03, 2022 6:24 AM
صحف

لبنانيون فرّوا من جحيم أوكرانيا... رأينا الموت في عيوننا لا طعام لا ماء وأشخاص غابوا عن الوعي

لم يكن فجر الثالث من آذار مجرد «استيقاظٍ» ليوم آخَر، بل كان فجراً لحياة كُتبت من جديد لدفعة من الطلاب اللبنانيين وصلوا إلى أرض الوطن (من بوخارست) بعد معاناة طويلة لسبعة أيام «عاشوا» فيها الموت مراتٍ ورأوه بأم العين خلف «خطوط النار» في أوكرانيا.

40 طالباً مشوا طريق الهجرة العكسية هرباً من جحيم الحرب الروسية على أوكرانيا بعدما كانت الهجرة يوماً ملاذهم الآمن من «جهنّم» الاقتصادية والمعيشية في وطنهم الأمّ الذي رجعوا إليه وكأن «الكابوس» الذي أرادوا الإفلات منه أصبحت العودةُ إليه... حلماً.

معاناةٌ انتهت فصولها على أرض مطار رفيق الحريري، لكن جرحها لا يزال حارقاً في ذاكرةٍ انحفرتْ بفصول مؤلمة من حكاية 7 أيام من الذعر و«صراع البقاء» الذي فُرض عليهم ومعهم نحو 4 آلاف لبناني (كانوا في أوكرانيا عند اندلاع الحرب وبينهم نحو 1300 طالب) تُركوا في فوهة البركان الأوكراني.

طلابٌ التمسوا طريق العودة الوعرة ونجحوا في بلوغ «منطقة الأمان» خارج أوكرانيا، ومنها إلى لبنان، ولكن الفرحة في «يوم الرجوع» بلقاء الأهل، تخنقها حسرة كبيرة على رفاق لا يزالون عالقين على الحدود في بلاد غريبة وآخرين في قلب... «ملعب النار».

«هذه اللحظة هي حلم بالنسبة لي»، يقول أحد الطلاب الواصلين الى أرض المطار بفرحة مغمورة بالدموع. ويضيف: «لا أصدق أنني وصلتُ الى لبنان».

لكن حين يسأل من أحد المراسلين عن المساعدة التي تلقوها من الجهات الرسمية اللبنانية يهز برأسه نافياً ومتأسفاً ويدير ظهره و كأنه يود نسيان خيبته وخيبة رفاقه من مساعدةٍ لم تأت.

«رحلة صعبة» قالها طالب آخر: «خمسة أيام، من السبت الى الثلاثاء رأينا فيها الموت بعيوننا: لا طعام، لا ماء، و أشخاص غابوا عن الوعي، لكن على المعبر الحدودي في رومانيا تغيّرت أحوالنا واستقبلتْنا جمعياتٌ سهلت أمورنا».

قصف وبرد وجوع

وكانت السفيرة اللبنانية في وارسو رينا شربل ناشدت اللبنانيين الهاربين نحو الحدود البولندية او الرومانية بأن يتزودوا بالطعام والمياه والملابس السميكة لأن فترة الانتظار على الحدود طويلة تراوح بين 24 و60 ساعة في ظروف مناخية قاسية.

لكن هذه المناشدات لم تصل الى الغالبية العظمى من الطلاب الهاربين من جحيم المعارك الذين وجدوا أنفسهم في ظروف يصعب حتى مجرد تخيُّلها في حرارةٍ تدنت الى أقل من 16 تحت الصفر في العراء، وعلى طرق لا يعرفونها وقد انطفأت هواتفهم و حواسبهم ولم يعد بإمكانهم التواصل مع الأهل أو أي من المسؤولين.

ويقول أحد الواصلين: «خرجنا من خاركوف الى كييف، ومن ثم الى الحدود الرومانية. أمضينا 3 أيام في الطريق تحت القصف. ولم تنتهِ أزمتنا هنا لأننا احتجنا الى 13 ساعة إضافية للوصول الى العاصمة بوخارست».

هو يتفهم وضع الدولة اللبنانية وأزماتها حين يُسأل، أو ربما هو فقط لم يعد يؤمن بوجودها.

«الله يعين الدولة» يقولها بسخرية سوداء «والحمدلله ان د. محمد مراد تكفّل بمبادرة شخصية منه باحتضان كل اللاجئين وإيوائهم في فنادقه وتأمين مأكلهم وتذكرة العودة بالطائرة لكل واحد منهم».

فرحة الوصول الى لبنان لا تزال مجبولة بالخوف «كل ما أخبركم به لا يعادل لحظة واحدة من التواجد هناك تحت القصف والصواريخ»، يقول احدهم.

لكن فرحة لقاء الأهل والارتماء بين أذرعهم الدافئة وحدها الكفيلة ببلسمة جراح الخوف والتعب والضياع. هنا الحضن الآمن والإرادة الشرسة التي سعت بلا كلل لمطالبة المسؤولين بتحركات فورية فاعلة لإجلاء أبنائهم.

فأولياء الطلاب كانوا قد أقاموا أكثر من اعتصام ووقفة أحتجاجية سواء في طرابلس أو أمام وزارة الخارجية في بيروت ولم يألوا جهداً في الضغط على المسؤولين للقيام بما يتوجب لتوفير خروج آمن لفلذات أكبادهم من أوكرانيا.

بلا أموال طلاب يتخبطون وحيدين

وكان وفد من «الجمعية اللبنانية لأولياء الطلاب في الجامعات الاجنبية» موجوداً على أرض المطار لاستقبال العائدين وطالب بمعالجة أمور الطلاب في الخارج وتسهيل إرسال الأموال لهم في هذه الظروف الصعبة، مشددا على «ضرورة إقرار الدولار الطالبي، لأن وضع الطلاب اللبنانيين في الخارج صعب جداً».

فالدولار الطالبي الذي يطالب به الأهل زاد من حدة الأزمة التي واجهها الطلاب في أوكرانيا كما في الدول التي لجؤوا إليها. وفي اتصال لـ «الراي» مع والدة أحد الطلاب ممن لا يزالون في بولندا قالت السيدة اسطفان: «ابني وصل الى بولندا وليس معه أكثر مما يعادل عشرين دولاراً بالعملة الأوكرانية، وكان من الصعب عليه تحويلها الى عملة بولندية، وتَعَذَّرَ علينا إرسال أي مبلغ بالدولار إليه من لبنان. وقد طلبنا الى أصدقاء لنا في لاتفيا أن يقوموا بالتحويل من هناك. ولو لم يفعلوا لا أدري ماذا كان حلّ بابني. كل ذلك لأننا كنا نرسل إليه الدولارات بالقطّارة، لأن دولتنا ومصارفنا لم يطّبقوا قانون الدولار الطالبي وتركوا أولادنا يتخبطون هناك وحيدين كاليتامى بلا مبالغ كافية لتيسير أمورهم فهل من ذل أكبر من هذا»؟

سعي رسمي على «قد الحال»

وبالفعل أكثر من ألف طالب لبناني وجدوا أنفسهم عالقين في أتون الحرب الروسية على أوكرانيا بلا أي دعم رسمي أو مادي. خافوا، ارتبكوا، وكثر منهم لم يستطيعوا الوصول الى المصارف ولم يتلقوا التعليمات الواضحة حول ما يتوجب عليهم القيام به، وإن كانت السفارة اللبنانية في كييف قد وضعت خطاً ساخناً في تصرفهم، ووزارة الخارجية في لبنان قامت بالاتصالات اللازمة بسفراء الدول المجاورة لأوكرانيا لتأمين خروج آمن لهم.

لكن رغم كل الجهود كان الخوف والضياع سيدا الموقف لأن عملية الإجلاء لم تكن منظّمة واضحة المعالم بححيث تتم تحت إشراف السفارة او الهيئات الرسمية، بل عبر مجموعات صغيرة تولى قيادتها والتنسيق لها شباب لبنانيون سعوا جاهدين للتواصل فيما بينهم لتأمين خروجهم وخروج رفاقهم من أوكرانيا بَراً عبر الحدود البولندية والرومانية، كما يروي ربيع كنج رئيس الجمعية اللبنانية لأولياء الطلاب في الجامعات الأجنبية.

وقد أكد اللواء محمد خير، الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة على هذا الأمر أمام العائدين وأهلهم قائلاً: «منذ البداية، كنا نريد القيام بخطة لإجلاء اللبنانيين خلال وقت الهدنة، لكن المعارك المستمرة حالت دون ذلك، فكان من الأفضل التوجه الى الشباب هناك بأن يخرجوا من أوكرانيا عبر مجموعات، وهذا ما كنا نقوم به من خلال التنسيق مع سفارتنا ومع السفير اللبناني لدى أوكرانيا علي ضاهر الموجود في كييف، وكنا نشدد على ألا يَخرجوا بشكل فردي أو من خلال مجموعات كبيرة بل فضّلنا عدم حصول تجمع بأعداد كبيرة للعائلات اللبنانية وهذا ما حصل. وفي كل مدينة مجموعة من شباب يتواصلون مع بعضهم ونتواصل بدورنا معهم».

ولفت الى أن «هناك أشخاصاً فضّلوا الذهاب الى أوروبا»، مشيراً الى أنه خلال 48 ساعة ستصل طائرة اخرى تقلّ لبنانيين من وارسو، وموضحاً أن العبور الى رومانيا كان أسهل من طرق أخرى.

وكان أكد أن «العدد الذي تمّ تسجيله لدى السفير اللبناني في أوكرانيا هو 960 مواطناً لبنانياً، ومن بين هؤلاء تسجل 450 منهم للتوجه الى بولونيا وقد دخل منهم حتى الآن 250 شخصاً، وهناك نفس العدد تقريباً على الحدود سيتوجهون الى وارسو».

تضامن مدني يكسر الجمود الرسمي

لكن اللبنانيون لم ينتظروا مبادرات جهاتهم الرسمية بل عملوا سواء من لبنان أو من الدول المجاورة لأوكرانيا لإطلاق شبكة دعم ومساعدة. وقد تولى ربيع كنج التنسيق بين مختلف الجهات وعمّم لائحة بأسماء وأرقام طلاب وشباب لبنانيين في رومانيا على استعداد لاستقبال أخوتهم اللبنانيين النازحين من أوكرانيا، إضافة الى الدعم الكبير الذي قدّمه رجل الأعمال وصاحب فنادق فينيسيا في رومانيا محمد مراد في إيواء اللاجئين على نفقته الخاصة وتأمين عودتهم الى لبنان من بوخارست.

أما في بولندا، فكان خير أعلن سابقاً أنه «تم الإتفاق مع السلطات البولندية، وبالتنسيق مع السفارة اللبنانية في بولندا، لإعتماد مركز جمعية الصداقة مع الأطفال في منطقة 31wyzcolenia في وارسو، لتجمع وإيواء اللبنانيين الوافدين من أوكرانيا، تمهيداً لإجلائهم والعودة الى لبنان»، وذلك بعدما شكا عدد من الطلاب الواصلين الى بولندا من أنهم وجدوا أنفسهم وحيدين تماماً ضائعين لا يعرفون أين يتجهون ولا بأي لغة يتواصلون مع المسؤولين والناس في ظل غياب تام للبعثة اللبنانية وإرشاداتها.

لكن رغم كل الجهود، فالمعاناة لم تنته وعملية الإجلاء تسير ببطء. فكثر من الطلاب لا يزالون ينتظرون دورهم على الحدود سواء مع بولندا او رومانيا في صفوفِ انتظارِ لا تنتهي، والأولوية فيها للمواطنين الأوكرانيين.

كما أن جزءاً لا يزال عالقاً في المدن المحاصَرة مثل ماريبول وخاركوف وبعضهم أطلق نداءات استغاثة عبر وسائل إعلام لبنانية لديها مراسلين على أرض المعارك في أوكرانيا، وبعضهم الآخر لا يزال مجهول المصير بعدما انقطع التواصل معهم او تاهوا على الطرق وتوجهوا الى أماكن أخرى غير التي كان يتوجب عليهم الوصول إليها.

... هي أكثر من معاناة، هي مأساة كُتب على الشعب اللبناني أن يعيشها جيلاً بعد جيل. «فكرتْ بأهلي حين نزلت مع رفاق لي إلى ملاجئ المترو في كييف»، يقول سامي وهو من أول الذين غادروا واستطاعوا الوصول الى ألمانيا التي له أقارب فيها، ومن حظه أنه يحمل تأشيرة شنغن تتيح له الدخول إليها.

ويضيف: «عادت الى بالي الروايات التي كانوا يخبرونني إياها عن الملجأ والقصف وأصوات القنابل خلال الحرب الأهلية في لبنان، وهذه الصور التي أرعبت طفولتي دفعتْني الى عدم التردد والبحث عن مخرج فوري فكنتُ من أوائل الدفعات التي غادرت كييف يوم الجمعة».

وصول أول طائرات العائدين أنعش الأمل في نفوس الأهل المنتظرين على نار عودة أبنائهم. وعلّ عمليات الإجلاء تتسارع وتيرتها لتعيد الى بلاد الأرز أبناءها الذين تَشَرَّدوا مرتين...

- الراي الكويتية -

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o