Jul 13, 2021 2:02 PM
مقالات

الحصانة والعصا

كتب اديب ابي عقل

المركزية- الهزال الذي يشكّل عنوان الطبقة السياسية المسؤولة شكلا ومضمونا، أشخاصا وممارسة، تجلى الأسبوع الفائت هزالا في التشريع والتعاطي مع قضايا خطيرة بهزال فهم قانوني وفقه تشريعي، وهزال في الضمير الوطني والشعور الانساني.

ذلك أن جريمة بحجم تفجير المرفأ أودت بمئتي شهيد وآلاف الجرحى، وسببت دمار نصف "ست الدنيا" تم التعاطي معها في مقر التشريع الأول في لبنان بخفة ما بعدها خفة، واستخفاف بعقول اللبنانيين واستهتار بالحق والقانون وقفو فوق الشعور الانساني لأهالي الشهداء والجرحى. وهذا أكد مرة جديدة النمط المخزي من المعالجات، في وقت كان يمكن أن يشكّل نقطة أمل في إمكان المحاسبة في لبنان، ونقطة انطلاق، أو على الأقل منصة صالحة لبدء خطوات محاربة الفساد والعبور إلى دولة الحق والعدالة والحرية.

والأنكى في ما حصل، هو تذاكي الذين اجتمعوا في عين التينة لدرس طلب المحقق العدلي برفع الحصانة عن بعض النواب، وسبقهم في ذلك "مفوّهون" حقوقيون "تشدقوا" بنظريات "خنفشارية" خلطت حابل الأمور بنابلها، وأشاروا إلى وجوب خلو القرار من "ثغرات" أو هنات قانونية ليبنى على الشيء مقتضاه.

وهذا التذاكي الذي يعكس نفاقا يخفي تضامنا مستترا بين أبناء هذه المنظومة، ما حمل "المستدعين" إلى المثول أمام القضاء على التراجع عن استعدادهم للحضور، خلافا لما كانوا أعلنوه لدى علمهم بقرار الاستدعاء الذي علم به الاعلام قبل أن تتسلمه دوائر المجلس بصورة رسمية، ما حمل بعض "حماة" هؤلاء المستدعين على القول إنه لا يجوز أن يعلم المدعى عليهم من الاعلام قبل تبليغهم بالسبل القانونية. وهو أمر مضحك فعلا ومبكٍ في الوقت نفسه أن يتكلم مسؤولون كبار بهذه الخفة عن جريمة خطيرة من هذا النوع.

فلا يجوز تكرار طريقة العصا والتهديد به بلغة "التمنين" والحديث عن عدالة متأخرة تساهم في تأخيرها في الحقيقة والواقع مواقف من هذا النوع تعكس نفسها مباشرة على نواب ومسؤولين معنيين بطلب قضائي من هذا الحجم، ما يجعل الكلام عن عدالة متأخرة مثابة دعوة مخفية إلى إغلاق هذا الملف. لأنه وكما يظهر من مواقف من هم فوق الوزراء المسؤولين في الفترات التي توالت منذ دخول أطنان نيترات الأمونيوم- التي لم يُعرَف أصحابها لغاية الآن- حتى انفجارها أو تفجيرها، أن المعلومات الكثيرة والمتشعبة وذات الصلات  الخارجية والبعيدة قد تفض أمورا كثيرة من مصلحة الجميع التستر عليها وطي صفحتها.

فالمنطقة تمر في مرحلة حسابات ومفاوضات دقيقة تنسحب بنتائجها على الخريطة الجيوسياسية للمنطقة لعقود مقبلة، ومن المصلحة أن تبقى الأوضاع، ومن ضمنها نتائج التحقيق في انفجار المرفأ، طي الكتمان، أو على الأصح، قطع الطريق على مواصلة التحقيقات منعا لبلوغ الخواتيم التي ستطاول شظاياها بالتأكيد المحيط القريب للبنان والبعيد نوعا ما.

وإذا كان جهابذة التشريع والاجتهادات القانونية بدأوا يركزون على أن رفع الحصانة في غير محله بالنسبة إلى النواب لأنهم في هذه المرحلة من دخول النيترات إلى تفجيره أو انفجاره، كانوا وزراء، وتاليا يفترض إحالتهم إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، فهذا أمر مخجل أيضا لأن المجلس لم يتألف بشكله النهائي بعد ومساره طويل ومعقّد. لذا، فالمنطق والحق القانوني وكذلك الحس الوطني والشعور الانساني يفترض أن يدفع بالمستدعين إلى تجاوز كل ذلك واتخاذ قرار ذاتي، لا قانون ولا أحد يستطيع منعه ساعتئذ، بالمثول أمام القضاء والادلاء بصراحة وضمير وطني وإنساني بما يملكون من معلومات ومعطيات هي حتما كفيلة بإنارة طريق التحقيق لبلوغ العدالة الحقة والصحيحة في القرارات التي ستصدر.

والخوف كل الخوف والقلق كل القلق من أن تتكرر قصة النائب السابق يحيى شمص مع اللواء غازي كنعان عام 1994، أيام كان صاحب السلطة المطلقة في لبنان، إثر خلاف مالي وقع بينهما. حيث طلب اللواء كنعان في حينه من لجنة الادارة والعدل النيابية رفع الحصانة عن شمص بتهمة تهريب المخدرات، فسارع النواب "وهرولوا" إلى المجلس وعقدت جلسة تم في خلالها رفع الحصانة. وحصل ذلك خوفا من "عصا" كنعان التي كانت إذا ضرب بها تصيب مقتلا.

ومنعا للتعميم، فإن نوابا، ولو قليلي العدد، شكلوا لوائح شرف في المجلس خلال ممارستهم ووقوفهم الدائم إلى جانب القانون والدستور ورفضهم الانصياع للإملاءات التي كان ينقلها إليهم مسؤولو تلك المرحلة. والبعض لا يزال لغاية اليوم يحاول اتباع الطريقة نفسها، متكلا على العصا العاصية على الدولة والمانعة قيام مؤسساتها، ومتكئا عليها لحمايته عندما تُطلَب منه أمور مماثلة مجافية للحقيقة والعدالة والحق الانساني.

وتأجيل جلسة اللجان المشتركة إلى الأسبوع المقبل والتذرع بوجوب أن يزوّد المحقق العدلي المجلس بتفاصيل هو محاولة لكسب الوقت من جهة، وذر الرماد في العيون من جهة ثانية، وكشف سرية التحقي- وهنا الخطر- من جهة ثالثة، خصوصا وأن المستدعين إلى القضاء يقولون في أحاديث للإعلام إنهم رفعوا كتبا إلى المعنيين، ومنهم من يشير إلى امتلاكه معلومات من ألف القضية إلى يائها، وهذا يفرض عليه، والحال هذه، ويلزمه قانونيا ووطنيا وقضائيا وأخلاقيا وإنسانيا وضميريا، خوصا أمام أهالي الشهداء والجرحى، التوجه إلى القضاء من تلقاء نفسه واليوم قبل الغد ووضع معلوماته ومعطياته و"الأسرار" التي يملكها في خدمة التحقيق، وأن لا يخشى "العصا"، بل أن يخشى محاسبة الضمير تجاه جريمة بهذا الحجم وبهذه الخسائر البشرية والمادية.

وكلام بعض المسؤولين والقادة عن هول الجريمة ورفع الحصانة عمن تثبت مسؤوليته تقصيرا أو إهمالا، يبقى شكليا وشعبويا وفارغ من أي مضمون عملي، لأن هؤلاء لو أرادوا فعلا الوصول بالتحقيق إلى خواتيمه، لكانوا طلبوا من المستدعين المبادرة الذاتية إلى المثول أمام القضاء، وقرنوا ذلك بخطوات سريعة، على طريقة عصا كنعان، لرفع الحصانة. ومن تثبت براءته يكون رفع الحصانة عزز سمعته. ومن تثبت إدانته يكون استحق ذلك. إلا أن معادلة الحصانة والعصا أثبتت أنها الأقوى، و"العصا لمن عصى"...    

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o