Mar 20, 2021 2:20 PM
خاص

ريمون إده... فخامة الحلم الضائع...

المركزية- في لبنان المثقل بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية وتلك ذات الطابع الوجودي، باتت تواريخ الميلاد والوفاة تمر كعابر سبيل في وطن اعتاد تقليب رزنامات الزمن. على ان العزاء يكمن في أن أصحاب الذكرى، في أغلب الأحيان، من الشخصيات الكبيرة التي عرفت كيف تحفظ لنفسها مكانا يعجز تيار النسيان عن جرفه بحجة مرور الزمن.

هذه بالتأكيد حال عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، رجل السياسة الاستثنائي الذي لا يمر يوم على لبنان المصاب بداء يتم القامات والهامات،  إلا ويتحسر فيه أبناؤه على الفراغ الهائل الذي تركه الرجل برحيله قبل عشرين عاما، والذي قد تمر مئوية أخرى من عمر دولة لبنان الكبير (إذا صمدت في وجه الأعاصير الراهنة) قبل أن يعثر على شخصية جديرة بملئه.

ففي عز المصائب الهائلة التي يمر فيها الوطن اليوم، مرت ذكرى ميلاد "العميد" إده مرور الكرام، لا لشيء إلا لأن الوقت الآن لتأمين استمرارية الحياة، وهو ما تحول التحدي اليومي للمواطن. ولكن، وعلى طريقة "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"، تبرز في أوقات حالكة كالتي تغرق البلاد في سوادها اليوم، أهمية الشخصيات التي بحجم إده. ذلك أن لبنان يبكي اليوم فعلا على أطلال مثال السياسي الشفاف المقدام، الذي لم تتلطخ يده لا بفساد السلطة والقوة، ولا بدماء اللبنانيين عندما وجدوا أنفسهم في صلب معارك حروب الآخرين ومعادلاتها الممهورة بسواد الاستشهاد والحزن. بدليل أن أحدا لا يمكن أن ينكر على العميد إده، المعارض الأشهر والأشرس في جمهورية لبنان الكبير، أنه تجرأ حيث تخاذل كثيرون. ذلك أنه تفرد في معارضة اتفاق القاهرة الشهير الذي وقعه قائد الجيش العماد إميل البستاني عام 1969، مكرسا لبنان ساحة مفتوحة لصراع الفلسطينيين مع الاحتلال الاسرائيلي، حيث تخوف من أن تقع البلاد في فخ هذا الكباش، وتعجز عن الخروج منه من دون أضرار قاتلة.

ولأنه ذو حنكة سياسية وبعد نظر لا جدال في شأنهما، لم يكذب الزمن مخاوف ريمون إده وهواجسه، حيث أن مجرد مرور بوسطة فلسطينية في منطقة عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية الساحقة، كان كافيا لإشعال حرب أهلية ما كان ينقصها إلا شرارة صغيرة كهذه  لتشعتل وتحرق بنارها الأخضر واليابس. وإذا كانت الذاكرة الجماعية تعترف لحزب الكتائب بأنه وقف في خط المواجهة الأول ضد الفلسطينيين المسلحين باعتبارهم خطرا على الهوية والكيان اللبنانيين، فإنها حفظت شيئا وغابت عنها أشياء بينها المواجهة الكلامية بين ريمون إده ومؤسس حزب الكتائب بيار الجميل في هذا المجال.

وفي السياق، يروي العارفون بكواليس تلك المرحلة أن العملاقين السياسيين الذين اجتمعا، إلى جانب "نمر" السياسة اللبنانية، ووجه الجذابية والحذق الرئيس كميل شمعون تحت قبة ما سمي "الجبهة اللبانية، شاركا في اجتماع دعا إليه البطريرك الماروني آنذاك مار أنطونيوس بطرس خريش، في بكركي. وكان اللقاء مناسبة ليعرض كل طرف وجهة نظره من التطورات الدراماتيكية في الميدان. غير أن الاجتماع تحول عاصفا عندما دافع الجميل عن القتال الكتائبي ضد الوجود الفلسطيني المسلح، في مقابل معارضة إده، الذي اعتبر أن الفلسطينيين لا يملكون إلا الخيم التي بنوها، أما اللبنانيون، فهم يخاطرون بأرزاقهم ومنازلهم التي أمضوا عمرا وهم يعملون بكد في سبيلها. ولا أحد يشك في أن توقيع اتفاق القاهرة كان أول غيث انفراط عقد الجبهة اللبنانية، إلى حد أن ريمون إده تعرض لمحاولة اغتيال وهو في طريق العودة من اجتماع بكركي، وما لبثت أصابع الاتهام أن وجهت إلى حزب الكتائب، بفعل الخلاف مع مؤسسه.

غير أن الأهم يكمن في أن "العميد" دفع ثمن معارضته اتفاق القاهرة سياسيا أيضا. ذلك أن بعض من عايشوا تلك المرحلة يروون أن صوت إده الجريء علا في قاعة مجلس النواب، محتجا وقائلا: "سائق (قائد منظمة التحرير الفلسطينية) ياسر عرفات يعرف مضمون اتفاق القاهرة، فيما أنا نائب في البرلمان اللبناني ولا أعرف به"، وفي ذلك "لطشة" إلى العماد البستاني الذي وقع الاتفاق قبل إطلاع نواب الأمة عليه. أما في مجلس الوزراء، فالوضع لم يكن أفضل. ذلك أن صاحب المبادئ القائمة على صون هيبة الدولة اللبنانية في العمل السياسي اعترض على هدوء رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو تجاه العماد البستاني الذي رفض حضور الجلسة الحكومية، المخصصة لمناقشة الاتفاق، بذريعة المشاركة في دفن أحد أقاربه. وفي التفاصيل أن بينما كان الحلو يقول للبستاني عبر  الهاتف "Mon général، ندعوك إلى حضور جلسة الحكومة"، استشاط العميد غضبا، مطالبا بالحزم في مخاطبة قائد الجيش، على اعتباره موظفا من الفئة الأولى، فاستقال من منصبه. لكن قبل الاستقالة، حرص العميد الذي لقب عن حق بـ "ضمير الجمهورية" على ترك بصمة في وزارة الداخلية، حيث اتخذ القرار الجريء بقصف مسجد اختبأ فيه مسلحون يوما.... وما بين الحكومة والبرلمان، بصمات قانونية كبيرة وكثيرة لبطل المعارضة البناءة لا تزال حاضرة في القاموس السياسي بينها قانونا إعدام القاتل والسرية المصرفية، بينما لا يزال الزواج المدني حلما تقف الطوائف متراسا منيعا في وجه تحقيقه خوفا على سلطتها الدينية والدنيوية.

ولا شك في أن حرية ريمون إده بطل الانتخابات في عرينه الجبيلي أولا (وهو ما يشهد عليه أعيان المنطقة كنسيب الحواط، جد النائب زياد الحواط، والسيدة ماري الشامي، زوجة الدكتور أنطوان الشامي، أحد أهم أطباء المنطقة- التي يروى عنها أنها كانت المفتاح الانتخابي الأهم للعميد) أزعجت كثيرا من خصوم لبنان على رأسهم السوري، الذين دبر مخططا لإغتياله إلى جانب "المعلم" كمال جنبلاط ، لكنه نجا منه من خلال منفى باريسي اختياري شهد أيامه الأخيرة.

إنه غيض من فيض محطات كبيرة في مسيرة المعارض الأهم في تاريخ لبنان الكبير، والتي جعلته حلما رئاسيا بقي ضائعا لأن صاحبه رفض الرضوخ لشروط التكبيل الأميركية والدولية. فالقوة والفخامة لا تلتقيان مع الشروط المسبقة، بل مع الحكمة والاستشراف والحكم الرشيد... صفات نادرة حملها ريمون إده بما يجعل اسمه أكبر من الألقاب والمناصب. 

 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o