Jun 08, 2020 5:01 PM
خاص

غسان تويني... سر السياسة والصحافة والحياة والموت

المركزية- قد يتلذذ القدر في التلاعب عمدا بمصائر الناس، وصفعهم بضربات قد تهد الجبال والعزائم وتفتت الصخر. لكن الفرق... كل الفرق يكمن في بطولة خوض هذه المواجهة المفتوحة مع الزمن والحياة بايمان وصلابة. 

سر الحياة هذا وأسرار أخرى كثيرة اكتشفها باكرا عميد الصحافة اللبنانية والعربية وعملاق السياسة والديبلوماسية و... المغفرة غسان تويني. فحامت حول اسمه المضيء هالة تجعل ذكرى غيابه الأليمة محطة مشرقة لاستعادة تجربة فريدة حولها الزمن وضرباته القاتلة أمثولة حياة لا تعترف بالرزنامة التقليدية ولا تقوى عليها أعوام الغياب المضنية. ففي حضرة العمالقة من طينة تويني الذي غاب عن دنيا الفناء هذه قبل ثمانية أعوام لا مكان للهجاء والبكاء والحزن. ذلك أن أناسا من أمثالهم لا يغيبون، بل يحفرون عميقا في ذاكرة جماعية لا بد أن تترك لهم مكانا بين حنايا صفحات وطن احترف فن الحياة والموت والقيامة...

تماما كوطنه الذي حمل لواء الدفاع عنه بسلاح الكلمة الحرة السوية التي لا تعرف إلى الخوف سبيلا ولا تعترف إلا بالحرية سقفا وقيمة للحياة الكريمة النبيلة، أتقن غسان تويني، ما يمكن تسميته "ترويض الموت" والتآخي معه، إلى حد القدرة الفريدة على السماح والمغفرة، في واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ لبنان الحديث. اهتزت الضمائر وفجع لبنان لإغتيال نجل تويني، الصحافي النائب الشهيد جبران تويني بانفجار دوى في صباح كانوني مكفهر، أراد منه المجرمون إسكات الصوت الحر الذي كانه جبران تويني، دينامو ثورة 14 آذار 2005 وقدوة الشباب التواقين إلى لبنان السيد الحر المستقل. لكن لغسان تويني، صاحب التجربة المرة مع موت رافقه كظله في كثير من محطات حياته المديدة نظرة أخرى. إنه الوالد المفجوع لفقدان فلذة كبده الذي "لم يتح له المجرمون طبع القبلة الأخيرة على جبينه"، كما يقول بمرارة في كتاب سيرته الذاتية "لندفن الأحقاد والثأر". على أن الأهم يكمن في أن الفارس النبيل المؤمن الذي كانه عميد مهنة البحث عن المتاعب أيقن ضرورة أن تكون التراجيديا الاغريقية التي طبعت سيرته أمثولة للجيل الجديد: "أنا أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والثأر". هذه العبارة المقتضبة كانت بمثابة الوصية الأخيرة لهذا الكبير من بلادي، الذي اختار أن يعلنها أمام نعش بطله الشاب، آخر العنقود في سلسلة وداعات مفجعة طالت الزوجة الأولى ناديا حمادة والابنة نايلة والابن مكرم... كلها معارك كبيرة خاضها تويني ضد القدر،  قبل أن يودع "نهاره" ويغوص في الحرب الأخيرة ضد المرض، والحزن الذي كبته طويلا في قلب أدماه العذاب وتغلب على الموت بالحياة.

وإذا كان القدر عينه حفظ لغسان تويني مكانا ورديا ملأته الزوجة الثانية شاديا الخازن، فإن الأكيد يكمن في أنه أتاح لغسان تويني أن يشارك في صناعة الأحداث، فكان شريكا أساسيا في صناعة التاريخ وخير أمثولة للحاضر وخير زوادة لمستقبل أفضل. فالأجيال الجديدة التي لم يكتب لها أن تعايش غسان تويني الصحافي والفيلسوف والنائب والوزير والسفير ذا الصوت المدوي في أروقة الأمم المتحدة، ستقرأ عنه بالتأكيد صفحات ومجلدات. فالرجل أكثر من مجرد طالب جامعي تتلمذ في هارفرد على يد الكبير الآخر شارل مالك جرفه القدر إلى مهنة عشقها حتى الثمالة، إلى حد أن البعض يعتبر أن في شرايين غسان تويني، لم يسر دم أحمر بقدر الحبر الأزرق. إنه النائب المعارض الشمعوني الهوى الإدوي (نسبة إلى العميد ريمون إده) الرؤية، القومي النشأة، الذي كان أصغر الداخلين إلى المجلس النيابي في خمسينيات القرن الماضي. لكنه أيضا كبير عشق اللعب مع الكبار، وأتقن مقارعة بعضهم حتى غدا على رأس قائمتهم، فانتقل ونقل معه امبراطورية "النهار" من موقع نقل الحدث وتحليله إلى صناعته، وهو ما تشهد عليه الطبقة التاسعة من مبنى الصحيفة القديم في الحمرا... وما بين الحدث والآخر، كان تويني هو الحدث المتنقل بين النيابة والوزارة والديبلوماسية والمعارضة... محطات كبيرة أبى إلا أن يترك فيها بصمته للتاريخ. فكان الصوت المدوي "دعوا شعبي يعيش"  الذي استولد القرار425، الذي ينص على انسحاب اسرائيلي أخرته الأجندات السياسية عقدين من الزمن...

لا يمكن المرور على غسان تويني الغائب الحاضر  من دون تعريفه مرادفا للحرية... فهو الصحافي الجريء الذي شكل الخصم الند لمعظم العهود المتعاقبة، إلى حد أنه دفع ثمنها سجنا عام 1949 على خلفية افتتاحيته الأشهر "بدنا ناكل جوعانين" التي واكبت يوما أنين ناس ارتضى تويني أن يكون صدى صوتهم ليقينه بأن الحياة ليست إلا محطات للتفاني في خدمة الانسان والانسانية....  قد يقول البعض إن لبنان الذي فنى "المعلم" عمره لأجله خذله وحرمه فلذات قلبه على كوع قدر مفجع. لكن الله لا يمكن أن يترك شعوبه من دون عزاء في زمن يتم القامات. لذلك، فإن عزاءنا أن في غياب الهامات من أمثال تويني حضورا واستحضارا دائمين، بدليل أن الثورة اليوم عادت إلى شعاراته الشهيرة التي كتبها قبل عقود. فبعض الأسماء أقوى من غبار الأفول، وحنين الذكريات واستعادة الأزمنة... بعض الأسماء تاريخ، يخلده التاريخ... 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o