May 11, 2020 3:50 PM
خاص

ريمون إده... فخامة العميد المعارض

المركزية- ليست المناصب هي التي تصنع الرجال والنساء القادرين والأقوياء، بل العكس. لا شك في أن من المهم أن تشغل موقعا متقدما في المشهد السياسي في بلادك، وهي حال كثير ممن أولاهم الناس ثقتهم في يوم الانتخابات وأثبتت تجاربهم أنهم لم يكونوا بحجم هذه الثقة. لكن هؤلاء فاتهم أن الأهم يكمن في اتقان اللعبة السياسية إلى حد التفاني في ممارسة فن الخير العام، بغض النظر عن تموضع سياسي من هنا، أو من هناك... المهم أن تحفر اسمك وتترك بصمتك في وطن اعتاد التأرجح بين موالين ومعارضين لا يوفرون فرصة لخوض صراع المناصب والتحاصص لا لشيء إلا لحسابات شخصية لا مكان فيها لمصلحة البلاد والعباد. 

على أن تعميم هذه الصورة ليس إلا إحجافا تاما في حق بعض الوجوه المضيئة، التي صارت أكبر من المناصب. وهذه بالتأكيد حال عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، رجل السياسة الاستثنائي الذي أمضى لبنان عقدين ثقيلين من عمره من دونه، محاولا... عبثا البحث عمن يشبهه في الممارسة السياسية المطبوعة بالنبل والشهامة والأخلاق وإزدراء المناصب.

صحيح أن تجربة ريمون إده في المجال السياسي اللبناني جعلت اسمه مرادفا للمعارضة. لكنه لم يمارس المعارضة لمجرد المعارضة، بل كان بطل المعارضة البناءة التي تنبه إلى الأخطاء، بل الخطايا متى وقعت في حق الناس وحياتهم، عندما يستسهل بعض الخارج والداخل تصفية حساباتهم الكبيرة والصغيرة على... حسابهم. ذلك أن الرجل تجرأ على إعلان معارضته الشرسة لاتفاق القاهرة الذي وقعه قائد الجيش العماد إميل بستاني عام 1969، ما أتاح للمنظمات الفلسطينية المسلحة استخدام الأراضي اللبناني منطلقا للقتال في مواجهة العدو الاسرائيلي. بحنكته السياسية التي لا تحتمل جدلا ولا تنتظر تفسيرا، استشرف ريمون إده الخطر الذي سيستجره هذا الاتفاق على لبنان، الذي ما لبث أن غرق في وحول حرب أهلية بغيضة جره إليها الخارج المتعطش إلى تصفية الصراع العربي- الاسرائيلي، من دون أن يعرض مصالحه للخطر، فكانت بوسطة عين الرمانة الشرارة الكفيلة بإشعال المواجهات في بلد كان يتراقص على حبال خطر الوجود الفلسطيني المسلح.

على أن ريمون إده، صاحب الدهاء السياسي الذي لا يخطئ هدفا ولم يكذب له الزمن توقعا، برع في التقاط الاشارات المرعبة إلى قدر لبناني أسود يطبخ ببرودة على نار المفاوضات الدولية. وفي هذا الاطار يروي العارفون بكواليس هذه المرحلة الشديدة الدقة، حادثة تدل بوضوح إلى صوابية مخاوف العميد. ذلك أن الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد اختار بعناية هدية لم تكن إلا رسالة واضحة إلى لبنان: تجرأ الأسد على أن يقدم إلى الرجل المسالم الذي كانه "العميد" ، بندقية سوداء، بلون الأيام المقبلة على لبنان، والتي لم يخف إده خشيته إزاءها، وهو الذي كان من أوائل المعارضين للوجود السوري "الموقت" في لبنان، وهو ما حدا بالرئيس المصري آنذاك أنور السادات إلى تحذير صديقه العميد من مؤامرة تحاك لاغتياله وعدد من الشخصيات المناوئة لدمشق، بينها "المعلم" كمال جنبلاط. وفي وقت خشي الأخير ترك الطائفة الدرزية وحيدة في مواجهة سوريا، اختار العميد المنفى الباريسي الطوعي، حيث أنهى أيامه المطبوعة بالمعارك الصادقة الشريفة والنبيلة المطبوعة بالمعارضة...  كيف لا وهو الذي كان الخصم الند والشريف للواء فؤاد شهاب، رجل السياسة الاستثنائي هو الآخر، وبطل معركة بناء دولة القانون والمؤسسات. كانت الخصومة بين هذين العملاقين في المجال السياسي شريفة إلى حد أن إده نجح في اختراق الحصن الشهابي الكسرواني الأول، كما في الانضمام إلى إحدى الحكومات الشهابية وزيرا للداخلية. حتى أنه في هذا المنصب تجرأ حيث لم يجرؤ آخرون، متخذا قرار قصف مسجد اختبأ فيه مسلحون يوما... وما بين المعارضة والوزارة محطات نيابية كثيرة وكبيرة كان ريمون إده سباقا في استغلالها لصالح النضال في سبيل دولة مدنية، فقدم اقتراح قانون الزواج المدني لم يبصر النور بعد، على عكس نصوص أخرى لا تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا، ولا يرى البعض ضيرا في المطالبة بإلغائها، كالسرية المصرفية التي جذبت الاستثمارات إلى البلاد، وقانون إعدام القاتل...

سجل كبير مشرف جعل إده مرشحا دائما وطبيعيا إلى رئاسة الجمهورية، ذلك المنصب الرفيع الذي تخاض في سبيله كبريات المواجهات وأشرس المعارك... لكن التاريخ العادل والمنصف والمشرف سيذكر بالتأكيد أن ريمون إده، الماروني البيروتي، كان شجاعا إلى حد رفض الوصول إلى هذا المنصب، بشروط تكبله كالقبول بالوجود السوري الموقت، كما عرضه عليه المبعوث الأميركي آنذاك دين براون.

قد تكون هذه هي القوة التي يتسابق البعض اليوم في تفسيرها وصبغها على ممارسات ووعود وعهود... القوة تكمن بالتأكيد في التحرر من كل القيود والتبعية، لأن الحكم استشراف ورؤية وحرية. هذا هو إرث ريمون إده للأجيال الجديدة، التي لم يكتب لها الزمن أن تعرفه وتعايشه: بعض الشخصيات لا يحتاج منصبا ليحمل لقبا ويكون في مصاف القادة... بعضهم فخامة أسمائهم تكفي.. وريمون إده على رأس هذه القائمة.  

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o