أسباب المخاوف الفرنسية من التصعيد: تدمير لبنان وحرب بريّة
كان من الطبيعي، أن يترافق التصعيد العسكري الإسرائيلي في لبنان وتعميق العمليات وتكثيفها ورفع وتيرتها، مع تكثيف التحركات والاتصالات الديبلوماسية سعياً وراء البحث عن خفض التصعيد. إصرار الحكومة الإسرائيلية على مواصلة الحرب وتحقيق أهداف من خلال الضربات القوية التي تم توجيهها، أعطت انطباعاً بأن بنيامين نتنياهو سيبقى مصراً على مواصلة عملياته من دون رادع. إنها أجواء ومواقف التقطتها جهات دولية عديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. على هذا الأساس انطلقت التحركات الدولية، والتي تجلّت في إعادة تفعيل المسار التفاوضي الأميركي، وفي طلب فرنسا بعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي.
المساعي الفرنسية
قبيل الجلسة، وبالتزامن مع انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كانت باريس تسعى عبر مروحة اتصالات لتشكيل رؤية دولية مشتركة تدعو إلى وقف الحرب على الجبهة اللبنانية. شرع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعقد لقاءات ومشاوارت مع شخصيات عديدة لها صلة بملفات الشرق الأوسط والوضع اللبناني. في الموازاة كان المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين يعمل على إعادة تفعيل مبادرته، خصوصاً أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لا تريد انفجار حرب جديدة في المنطقة. تحرك هوكشتاين بناء على الورقة التي جرى الاتفاق عليها سابقاً مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. والتي كان تطبيقها مرتبطاً بوقف الحرب على غزة.
ارتكزت المبادرة على تطبيق القرار 1701، مع وضع صيغة توضيحية لآلية تطبيقه. بالإضافة إلى السعي للعمل على الوصول إلى هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار، يفتح الطريق أمام مفاوضات جدية للوصول إلى اتفاق في لبنان. علماً أن لبنان يربط وقف النار على جبهة الجنوب بوقف النار في غزة. وهذا ما لم يوافق عليه الأميركيون أو يتبنوه. بينما كان هناك تبنياً فرنسياً له. وفي هذا السياق تقول مصادر ديبلوماسية متابعة أن ماكرون وخلال نقاشاته قبيل توجهه إلى نيويورك، كان يركز في تساؤلاته حول كيفية فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، إلا أن الخلاصة التي توصل إليها تشير إلى استحالة ذلك لأن الحزب ألزم نفسه بموقفه، ولا يمكنه التراجع عنه، ولو أراد فصل الجبهات لكان أقدم على هذه الخطوة قبل تكثيف وتوسيع العمليات الإسرائيلية.
تضيف المصادر الديبلوماسية أن ماكرون بدا متخوفاً من وجود إصرار إسرائيلي مع غطاء أميركي على توجيه ضربات قوية للحزب وإضعافه، فكان يحاول العمل على تكوين تصوّر حول كيف يمكن توجيه الضربات لحزب الله من دون إلحاق الضرر الكبير في البنى التحتية اللبنانية وبدون تدمير لبنان. لكن الإجابات كانت تشير إلى صعوبة الفصل، خصوصاً أن الإسرائيليين ينفذون ضربات جوية عنيفة تؤدي إلى أضرار كبيرة في الممتلكات والمنشآت وهذا ما يتأثر به الشعب اللبناني ككل. كان ماكرون يركز في نقاشاته على أنه من المهم عدم تدمير لبنان. أما النقطة الأهم التي ركّز عليها فهي كيفية صياغة مقترح لوقف الحرب، فتوصل إلى قناعة أنه لا بد من دمج اقتراح وقف النار في جنوب لبنان باقتراح وقف النار في قطاع غزة، وهو ما أقدم عليه وحمله إلى مجلس الأمن.
المفاوضات في بداياتها...كذلك الحرب
قبل انعقاد الجلسة، حصلت نقاشات عديدة بين الفرنسيين ودول عربية وغربية، إلى جانب المشاورات الفرنسية الأميركية، وبحسب ما تقول مصادر ديبلوماسية فإن واشنطن كانت ترفض إصدار أي بيان أو توصية تشير إلى الربط ما بين جبهة لبنان وجبهة غزة. عملت باريس على إيجاد صيغة تنص على الالتزام بالقرارات الدولية، في لبنان القرار 1701، وفي غزة القرار 2735، كنوع من ربط سياسي ومعنوي بين الملفين، وبشكل يمكنه أن يرضي غالبية الأطراف. لكن الصيغة بقيت مائعة ديبلوماسياً، خصوصاً أن حزب الله يشترط وقف إطلاق النار في غزة للموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان ولأن الحزب لا يريد فصل الجبهات.
واشنطن كانت ترفض إصدار أي قرار عن مجلس الأمن الدولي خاص بلبنان، وذلك لحسابات عديدة، أولاً عدم إلزام إسرائيل بقرار من هذا النوع. ثانياً، لا تريد واشنطن تكرار تجربة تمرير قرار كما حصل في غزة ولا يكون قابلاً للتنفيذ. ثالثاً، وهو إجابة تحليلية لمصادر ديبلوماسية تشير إلى أن هناك إصرار إسرائيلي وموافقة اميركية على إضعاف قدرات حزب الله العسكرية وأنه لا يمكن للحزب أن يبقى أو يعود إلى ما كان عليه الوضع سابقاً. وتلمس المصادر الديبلوماسية صعوبة في الوصول إلى اتفاق بدون حصول عمليات عسكرية واسعة تؤدي إلى فرض وقائع جديدة.
إلى جانب هذه المفاوضات، كانت قنوات التواصل الإيرانية الأميركية مفتوحة، خصوصاً في ظل رهان أميركي على النية الإيرانية للتقارب مع الغرب، وعلى أن طهران لا تريد اتساع الحرب. تعتبر واشنطن أن موقف إيران يمكن أن يساهم في ممارسة الضغط على حزب الله لدفعه إلى تقديم تنازلات. لكن ذلك لا يبدو قابلاً للتطبيق لدى الحزب، خصوصاً في ظل مؤشرات تفيد بوجود تباين في الآراء وتجاذبات داخل إيران، بين الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وفريقه، وبين الحرس الثوري، وفي هذا السياق فإن مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي يلعب دور ضابط الإيقاع. بحسب المعطيات من طهران فهناك انتظار لعودة بزشكيان من نيويورك وتحديد الموقف. علماً أن إيران في الأساس كانت تفضل تمرير اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بدون حصول أي تصعيد.
يواصل لبنان ترقبه وانتظاره لنتائج هذه المفاوضات، والتي بالتأكيد تحتاج إلى وقت طويلة كي تتبلور وتصل إلى صيغة ملائمة، على الرغم من عدم التفاؤل في إمكانية الوصول إلى أي اتفاق حالياً. على هذا القاعدة، يتكون تصور يشير إلى أن "المفاوضات في بداياتها" والحرب أيضاً في بداياتها. ويمكن للمسارين أن يترافقا على إيقاع واحد، أي بالتزامن مع زيادة العمليات العسكرية وتصعيدها تتكثف حركة الاتصالات في سيناريو مشابه لما جرى في غزة من قبل.
لم يكن حزب الله متفائلاً في مسارات التفاوض هذه لمجموعة أسباب، أولاً يعلم الحزب أن نتنياهو لم يكن يقدم على هذا التصعيد ضد لبنان لو لم يكن يستند على غطاء أميركي. ثانياً، يشدد الحزب على رفضه فصل جبهة لبنان عن غزة، والإسرائيلي يرفض وقف النار في القطاع. ثالثاً، يعتبر حزب الله أن إمكانية نجاح التفاوض كانت قائمة قبل التصعيد الإسرائيلي الكبير في تفجير أجهزة الاتصال وعمليات الاغتيال في الضاحية وتوسيع العمليات العسكرية، أما بعد حصول هذه التطورات فإن الأمور انتقلت إلى مرحلة جديدة من الحرب.
تشير مصادر قريبة من الحزب إلى أن الأميركيين يفعلون المفاوضات في محاولة لإلهاء القوى والأطراف المختلفة من خلال إيهام الجميع بالسعي للوصول إلى وقف لإطلاق النار، بينما في الموازات يعمل نتنياهو على تصعيد عملياته العسكرية، لذلك يعتبر الحزب أن هذا الأسلوب لن ينفع معه. رابعاً، تشير المصادر القريبة من الحزب إلى إعلان الإسرائيليين عن استدعاء ألوية احتياط إلى الحدود مع لبنان، وسط تكاثر التصريحات حول شنّ عملية برّية. في تقديرات الحزب أن الإسرائيليين وعلى الرغم من التدمير الكبير الذي يلحقونه بالجنوب والبقاع، فلن يتمكنوا من القضاء على قدرات حزب الله، وأن الإسرائيليين يتعمدون القيام بعمليات تدمير وتهجير للضغط على الحزب أكثر، لكنه سيحاولون استتباع ذلك بتنفيذ عملية عسكرية برّية، في محاولة لإدخال الدبابات إلى الأراضي اللبنانية وفرض أمر واقع عسكري، يصبح التفاوض عليه، بدلاً من التفاوض حول كيفية إعادة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم. بمعنى أوضح أن الإسرائيلي يريد أن يسعى لإنشاء حزام داخل لبنان يصبح التفاوض حول كيفية انسحابه منه فيكون قد حسّن شروطه للوصول إلى اتفاق طويل الأمد.
مما لا شك فيه أن حزب الله لا يزال يعتبر أن الدخول الإسرائيلي البرّي سيصب في صالحه، وأنه لديه إمكانية لقلب الطاولة، لا سيما أن التفوق الجوي سيتضاءل إذ لن يعود الإسرائيليون قادرون على استخدام سلاح الجو بشكل واسع وكثيف، وثانياً لأن الحزب يضع الخطط اللازمة حول مسارات الدخول البري إلى لبنان ويتجهز لنصب الكمائن وإلحاق خسائر كبيرة وإغراق الإسرائيلي في وحول صعب الخروج منها.
منير الربيع - المدن