Jul 25, 2023 8:32 AM
صحف

حاكم مصرف لبنان رجل التحدّيات: أين نجح وأين أخفق؟

أسبوع وينتهي عهد رياض سلامة في #مصرف لبنان، وينتهي معه زمن آخر أركان فريق الرئيس رفيق الحريري، الذي شكله أوائل التسعينيات، لإعادة إعمار لبنان بعد توقف صخب المدافع. يرحل سلامة بعد ثلث قرن في الحاكمية، تاركاً خوفاً وخلفاء، سماتهما المشتركة، الارتباك والضياع.

لا يختلف اثنان على أن الرجل كان يجيد صناعة الصداقات والنجاحات الكبرى، ومعهما كان يستولد أيضاً، عداوات وخصوماً و"حسّاداً". بقي طوال خدمته في المركزي، بموقع الهدف الدائم للمعارضات السياسية، التي ما رحمته يوم كان يراكم النجاحات والإنجازات، ويقرع أجراس أعرق بورصات العالم، ورجمته بأقذع التهم يوم جفّ ضرع مصرف لبنان وبات لا يقوى على سدّ شراهة السلطة للصرف والهدر على حسابه، ومن حسابات المودعين.

لم يعرف رياض سلامة حتماً، أن يدافع عن نفسه كما يجب، وإخفاقه في ذلك يعود ربما لغلبة العقل المالي والاقتصادي لديه، الذي يمتهن الاستقرار والهدوء، على العقل السياسي، الذي يعيش ويحيا على التصارع ومقارعة الخصوم. كذلك لم ينتظر التكريم والتعظيم، فهو نال عالمياً ما يكفيه زاداً للتاريخ، وما يعزز سيرته ومسيرته، ويرضي شعوره بأن صموده لثلث قرن في سدة الحاكمية، ما كان ليستمر ويمدد، لولا الثقة بقدراته وصوابية قراراته. لكن الخاتمة حتماً لم ترضه، وانهيار، بثلاثِ سنين ما بناه بثلاثين سنة، لن يرضيه إطلاقاً، والجواب سيبقى في جيب التاريخ، وتحديد المسؤوليات السياسية والمالية، عن أعظم انهيار في التاريخ الحديث، سيبقى أسير الخزائن الصامتة، إلى حين يقرر سلامة قرع جرس الحقيقة الكاملة بنفسه، والخروج من خطيئة الصمت الذي كلفته مع الليرة أقسى الأثمان.

عندما انتقل الى مصرف لبنان عام 1993 كأحد أركان الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كانت أثقال الانهيار النقدي والمالي تعصف بالبلاد وبالقطاع المصرفي. حدّد الأطر اللازمة للشروع بتثبيت سعر الصرف، وتنقية القطاع المصرفي، وإعادة الوظيفة والدور الريادي للبنان مالياً ومصرفياً وإعادته الى الخريطة المالية والمصرفية العالمية.

لم يكن يومها يخطط للبقاء على كرسيّ الحاكمية، أكثر من ولايتين فقط، لكن اغتيال شريكه في القرارات الكبرى، وحاميه بمواجهة الطبقة السياسية الرئيس الحريري عام 2005، بدّل الخطط، وجعل من استمرار وجوده على رأس مصرف لبنان، حاجة وطنية وضرورية لتثبيت الاستقرار المالي، والنقدي، وحماية المنجزات المحققة في المصرف المركزي من جهة، وفي القطاع المصرفي من جهة أخرى.

ليس مديحاً القول إنه أنجز، وليس ذمّاً بحقه، المصارحة بأنه في الختام أخفق. فالإنجاز وإن كان فردياً، يلزم لديمومته، دولة ومؤسسات، وسياسات مستدامة، افتقدها الرجل طويلاً، وحاول التحذير من غيابها مراراً، لكن سيف الإخفاق السياسي عزل الإنجازات المالية، وعاد التاريخ ثلث قرن الى الوراء، ليشاهد الرجل الذي تسلّم ليرة ومصرفاً مركزياً على الحضيض، يعيد بعد كل الإنجازات والأحلام تسليمهما إلى نائبه، أيضاً على الحضيض.

قد يكون رياض سلامة في نظر غالبية السياسيين والمواطنين الشخص الذي أغرق البلاد والعباد في الأزمات وهو الشرير الأكبر، ولكن الحقيقة هي غير ذلك، فصمت سلامة في وجه كل الاتهامات كان السبب في إدانته.

لا يرى خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي أن الاضطرابات التي قد ينتجها تاريخ 31 تموز 2023 لرياض سلامة شأن فيها. وفي لمحة تقييمية سريعة لأداء سلامة في موقعه رئيساً للسلطة النقدية، يشير فحيلي الى إجراءات نقدية عدة نجح فيها خصوصاً حيال إعادة الثقة بالنقد الوطني عندما انهارت الليرة لأول مرة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ورافق ذلك ارتفاع حاد بنسبة التضخم، فيما أخفق في الكثير المواقف وخصوصاً حيال تعاطيه مع السلطة السياسية ومسايرته لها.

ولا يخفي فحيلي سراً بقوله إن سلامة "أمّن وهندس التمويل المطلوب لإعادة إعمار ما دمّرته وأفسدته المكونات السياسية في لبنان مع تأمين حاجات القطاع الخاص، أفراداً ومؤسسات، من التمويل الذي أسهم في تحقيق نهضة اقتصادية جذبت الكثير من المستثمرين إلى الداخل اللبناني، كذلك عالج التضخم المفرط بحزم واحتراف من خلال إعادة الحياة إلى القطاع المصرفي، والثقة إلى العملة الوطنية، وكان لسياسات مصرف لبنان اليد الكبرى بترميم ثقة الموطن، مقيماً وغير مقيم، بالوطن الأم، وأسهم ذلك بالإسراع في معالجة التضخم".

مصرفياً، "أعاد سلامة الروح والمهنية إلى القطاع المصرفي الذي كانت قد فكّكته ولوّثته أموال الحرب والقتل وتجارة الأسلحة. وكان له الدور الأهم في إعادة هيكلة القطاع المصرفي بعد الحرب الأهلية من خلال تأمين الظروف لإتمام عمليات الدمج والاستحواذ والتصفية الذاتية لتفادي أي صدمات سلبية قد تنتج عن تدهور مصرف أو أكثر من مصرف في وقت واحد".
ويذكر فحيلي الأزمة المالية العالمية في 2008/2009، عندما "استطاع سلامة حماية لبنان من تداعياتها". ويقول "قد يكون تحقق ذلك بالصدفة، أو بسبب رؤية مستقبلية جيدة وتصميم وعمل، المهم أن لبنان نجا من التداعيات السلبية لهذه الأزمة". 

لا ينكر فحيلي أن سلامة "أسهم في تمويل فساد مكونات السلطة السياسية وزبائنها، ولكن بالنسبة له كان يموّل السلطة بالقانون والنظام. وتالياً من الخطأ تحميل رئيس السلطة النقدية مسؤولية فشل أنظمة الرقابة في لبنان من مجلس النواب والسلطة الرقابية التي يتمتع بها ويجب أن يمارسها على أداء الحكومة، الى التفتيش المركزي، وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية. المسؤولية الوحيدة التي يتحملها رئيس المصرف المركزي في هذا الإطار هي عمل، أو فشل في عمل لجنة الرقابة على المصارف في الحد من المخاطر الائتمانية في توظيفات المصارف لأموال المودعين". وفي السياق يشير فحيلي الى أن سلامة "أنقذ الطبقة السياسية من فشلها بإدارة الأزمة الاقتصادية الأخيرة وقبل بتحمّل المسؤولية. وبعد التعثر غير المنظم بسبب قرار حكومة الدكتور حسان دياب بالتوقف عن خدمة الدين العام، قام مصرف لبنان بخطوات لم تجرؤ السلطة، لا التشريعية ولا التنفيذية، على القيام بها وتتلخص بالآتي: 
- التعميم الأساسي رقم 150 في 9 نيسان 2020 الذي شرّع إنشاء نوع جديد من الحسابات بالعملة الأجنبية أطلق عليها اسم حسابات فريش معفاة ومحرّرة من كل شيء. 
- التعميم الأساسي 151 في 21 نيسان 2020، إذ بعد فشل السلطة السياسية في إقرار قانون الكابيتال كونترول، كان من الضروري إصدار التعميم 151 لتمكين المودعين من الوصول إلى أرصدة حساباتهم لتمويل فواتير الاستهلاك، للأفراد، والمصاريف التشغيلية، للمؤسسات. 
- التعميم الأساسي 161 في 16 كانون الأول 2021، إذ بعدما عانى ما عاناه القطاع العام من استبعاد اقتصادي بسبب تلاشي قدرة الدولة على تمويل الحد الأدنى من مصاريفها التشغيلية، أخذ مصرف لبنان على عاتقه صرف رواتب وأجور القطاع العام بالدولار وعلى سعر صرف مدعوم. التعميم كان، ولا يزال، خشبة خلاص لرواتب وأجور القطاع العام، ونجح في المحافظة على قسط كبير من كرامة العيش التي كادت السلطة السياسية تفقدهم إياها!
- التعميم الأساسي 165 في 19 نيسان 2023. بعدما أغرق الاقتصاد الوطني بالأوراق النقدية وأصبحت محاربة تبييض الأموال أحد أكبر التحديات على الساحة المحلية، وهدّد لبنان من مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) بتصنيف سيئ آخر، سارع مصرف لبنان إلى إنتاج ديناميكية عمل جديدة تفصل التداول بالنقد "الفريش" المحرر من المخاطر الائتمانية عن التداول بالدولار المحلي المثقل بالمخاطر. 

في الأسابيع الأخيرة، نجح سلامة في ترتيب المطبخ الداخلي لجهة البيانات المالية، وعمل على عزل مؤسسة مصرف لبنان عن الاضطرابات والتهم التي يواجهها هو شخصياً من القضاء الفرنسي والألماني والسويسري واللبناني، وسهّل الكثير على من سيترأس السلطة من بعده، الى درجة أنه قد يكون مصرف لبنان بعد سلامة أحسن مما كان عليه مع سلامة بفضله"، برأي فحيلي. 

وتطرق الى بيان نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة وتهديدهم المبطّن بالاستقالة إن لم يُصَر إلى تعيين حاكم جديد خلفاً لسلامة قبل انتهاء ولايته الخامسة، إذ اعتبر أنها لم تكن خطوة موفقة، لكونها أكدت المؤكد، وهو أن من أدار السلطة النقدية بكل تفاصيلها هو شخص رياض سلامة، وغيابه عن هذا الموقع أخافهم ودفعهم إلى التهديد بالاستقالة. وهذا جعل من المشهد على الساحة النقدية أكثر ضبابية، لأنه حتى لو نجحت السلطة السياسية في تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، فسيلجأ هذا الشخص إلى نواب الحاكم ليتعرف عن كثب إلى حقيقة السياسات النقدية خلال الأزمة ليبني عليها في المستقبل.

ذهب أو لم يذهب، انتهت ولايته الخامسة أو بقي على رأس السلطة النقدية لولاية سادسة، فإن بصمات رياض سلامة في صياغة السياسات النقدية لانتشال لبنان من دمار الحرب الأهلية، والفراغات الدستورية المتتالية، وفي إدارة إحدى أكبر الأزمات المالية والاقتصادية لن تغادر المشهد النقدي والاقتصادي في الوقت القريب. 

سلوى بعلبكي - النهار

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o