Jun 09, 2023 11:52 AM
مقالات

حين قال لي "السيّد": عباءتي يحميها المسيحيون

كان اللقاء على الهواء. لأوّل مرّة. وآخرها. ميشال عون وحسن نصرالله معاً في حوار تلفزيوني. بلا ألقاب. يكفيهما اسمان يعلوان كلّ لقب...

وكان نقاش في معنى لبنان. وعلّة وجوده. قبل فاصل استراحة.

تحت الهواء تابع السيّد كلامه. شارحاً قناعته العميقة في المسألة. فجأة لمس عباءته بأصابع يده وكفّها، ونظر في عينيّ، وباح لي بتلك العبارة التي لن أنساها. والتي الآن الآن أوان استذكارها وتذكير كلّ من يلزم بها.                           

بين المسلمين والمسيحيين

كان الصلحيّ الميثاقي الكبير، تقيّ الدين الصلح، يقول: استقلال لبنان مسؤوليّة مسيحيّيه. أمّا ديمقراطيّته فمسؤوليّة مسلميه.

معادلة ذهبية دقيقة من أيّام رجال من ذهب. تفسيرها واضح. بل متجسّد في المعاناة والمآسي عبر عقود من الأحداث: كلّما تراجع دور المسيحيين، أو ضلّ أو أخطأ الرهان، تعرّض استقلال البلد للخطر. وكلّما جنح دور المسلمين، أو كابر أو توهّم، صارت ديمقراطيّة بيروت أقرب إلى استفتاءات المحيط.

هي هذه "اللبنانيّة" الفريدة الخاصّة، كما سمّاها صلحيّ كبير آخر، هو مُنح الصلح، الذي زاد عليها ذات مساء من قلب الكسليك، أنّ ما بين لبنان والمسيحيّة، هو معادل تماماً لِما بين العروبة والإسلام، وأنّ على مسيحيّي لبنان ومسلميه اجتراح المعادلات اللازمة لحياة هذه المواءمة وتطوّرها كلّ يوم. 

ثورة الورود.. والرضوخ

عند وصولهم إلى تلك المرحلة، جاءت 17 تشرين. ثورة الورود وأعمارها. ثورة استعادة كلّ القيم بالفرح حتى الحبور. ثورة جمعت كلّ جغرافيا الوطن. فاعتنقها المسيحيون. حسبوها القيمة المضافة النهائية، لجمع كلّ لبنان وكلّ لبنانيّيه في إطار ثنائيّتهم المنشودة: حرّية وحداثة، وفتح أفقه المطلوب صوب الدولة المدنية والمواطنة الشاملة.

قبل أن تبدأ الانهيارات. سُحِلت ورود الثورة بفَقْء العيون. سقطت الدولة واقعاً ومفهوماً. عادت الهجرة الكثيفة نزفاً من آخر ثنايا القلب. وتخلّى العالم عن أيّ اهتمام فعليّ جدّي بهذا "المكان".

في حمأة تلك المأساة، خرج من يقول لهم: نحن نسمّي رئيس الجمهورية ونقطة على السطر. يبقى عليكم خيار واحد: إمّا أن تقبلوا وترضخوا الآن، وإمّا أن تهدروا وقتكم وآخر أثمانكم وخسائركم الأخيرة... ثمّ ترضخوا بعد حين.

ومن أعطى هذا الانطباع، لنفسه ولمرشّحه وللمسيحيّين وللّبنانيّين، إنّما ظلم كلّ هؤلاء معاً.

ظلم سليمان فرنجية أوّلاً، لأنّه جعله خطأً مرشّح الحزب والثنائي حصراً. لم يترك له فسحة ليعلن مارونيّ أو مسيحيّ آخر، مؤيِّد أصلاً له، من كسروان أو بشرّي، تأييده له. وهذا معبّر جدّاً عن صورة الحزب التي بلغها في بيئة هؤلاء.

وظلم فرنجية ثانياً لأنّه أظهره مرشّح "اليُتْم المسيحي"، وهو ليس كذلك طبعاً.

وظلمه ثالثاً لأنّه أوجد حول ترشيحه انطباعاً أنّه مرشّح عودة منظومة الوصاية ومنظومة الكارثة والإفلاس، التي تتوسّل سبيلاً لإعادة تعويم ذاتها وإعادة إنتاج شرعيّتها البائدة.

لكنّ الأهمّ أنّ من رشّح فرنجية بهذه الطريقة، ظلم كلّ المسيحيين. وهم في غالبيّتهم الساحقة مع المقاومة. ومنذ 1982 على الأقلّ. هي قناعة من يعرف نبضهم ووجدانهم بعمق. كانت تجربة 1982 آخر الصدمات وآخر المغامرات والمقامرات. وكانت قاتلة. لكن مُحيِية في الوجدان والعقل الجماعي. بعدئذٍ صارت إسرائيل عدوّاً "عن جدّ". وصاروا مع مقاومتها. لكن مع مقاومتها من أجل لبنان. لا من أجل نفوذ إيران. ولا من أجل أوراق نظام دمشق. ولا من أجل تحرير فلسطين حتّى. مع إيمانهم العميق بأنّ قضية شعبها هي قضية حقّ. عليهم مناصرتها. وأوّل دعمهم لفلسطين، أن يبنوا لبنان سيّداً ديمقراطياً قويّاً بحرّيته ونموّه واقتصاده وحداثته. لا أن يدمّروه، فيدمّروا النموذج العربي الوحيد المضادّ للتيوقراطية الصهيونية.

ظلم فرنجية.. والمقاومة

الذي رشّح فرنجية بهذه الطريقة وبهذين الأسلوب والكلام، ظلم المقاومة أخيراً. لأنّه جعل غالبية اللبنانيين في موقع مضادّ لمرشّحها. فيما هم وبالكثير منهم معها. وهذا ما لم يقبل الحزب بمناقشته بعد: أن تكون كلّياً مع المقاومة، وألّا تكون أبداً مع المشروع السياسي لحزب. أن تكون جينيّاً ضدّ الكيان الصهيوني، وألّا تكون أبداً مع "ولاية لبنان الخمينيّة". أن تؤمن بكلّ أحشائك بأنّ لبنان لا يمكنه أن يحيا يوماً بلا مقاومة. وأن تؤمن بنفس القدر والعمق، بأنّ لبنان نفسه لا يمكنه أن يحتمل لحظة واحدة مشروعاً تيوقراطياً لدولته وثقافته وحياة أبنائه.

ظلمت المقاومة نفسها حين أوحت أنّ سليمان فرنجية هو الماروني الوحيد الذي لا يطعنها. فهل إلى هذا الحدّ كانت المقاومة فاشلة في خياراتها ولبنانيّتها لتبلغ هذا الحدّ، أو لتتوهّم ذلك؟

ظلمت نفسها حين ألمحت إلى أنّ جهاد أزعور، مثلاً، هو السلاح الفتّاك القادر على تدمير المقاومة وإزالتها. فهل إلى هذا الحدّ باتت مفلسة في نسج حمايتها الوطنية؟!

جان عزيز - اساس ميديا

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o