May 02, 2023 7:34 AM
مقالات

الحرب في السودان أبعد من صراع على السلطة

يدخل الصراع على السلطة في السودان أسبوعه الثالث، وتؤكد دموية القتال والاستماتة في السيطرة على مواقع القيادات العسكرية وعلى المؤسسات والبنى التحتية الرسمية في العاصمة الخرطوم والمدن المحيطة بها أن إمكانية العودة إلى حالة التعايش بين الفريقين ضمن أي معادلة سياسية لم تعد ممكنة. يحاكي الموقف الحالي في السودان ما أورده ويلو بيردج وألكس دي وال وجاستن لينش في كتابهم "ديمقراطية السودان غير المنجزة" (Sudan’s Unfinished Democracy) الصادر في أبريل/نيسان 2022. يروي الكتاب قصة الثورة السودانية منذ العام 2019 وكيف نجحت في إسقاط حكم الرئيس عمر البشير، وكيف كان المحتجون يأملون في حدوث تحول شامل في السياسة السودانية لكنهم وجدوا أنفسهم في صراع مع مجموعة من الجنرالات يهيمنون على الاقتصاد بشكل قوي ومدعومين إقليمياً ودولياً.

الرجلان المتصارعان، الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) هما نتاج الهندسة التي ابتكرها البشير للقوات المسلحة، وركني نظامه، ولا يمكن لأي منهما ادعاء حماية الديمقراطية، حيث لكل من الجنرالين شبكة دولية خاصة به، ولدى كل منهما عشرات الآلاف من المقاتلين والداعمين الأجانب والثروات المعدنية والموارد الأخرى بما يكفي لإطالة أمد الحرب وتحويلها إلى حرب بالوكالة تلاقي الصراعات الدائرة في سوريا وليبيا وأثيوبيا.

في نتائج المواجهة الميدانية

الوقائع الميدانية على امتداد الأسبوعين المنصرمين وتركيز المواجهات في مدن محافظة الخرطوم- بما لا يسمح للجيش باستخدام القدرات الجوية والأسلحة الثقيلة المتوافرة بشكل فعال تجنباً لخسائر كبيرة في صفوف المدنيين- لن تتيح أية إمكانية لتحقيق نجاحات ميدانية تُفضي إلى تغيير ميداني حقيقي وتثبيت معادلة سياسية جديدة. كما أن فشل النداءات الداخلية والعربية في التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار يؤكد أن الظروف الملزمة لذلك لم تتوفر بعد.

والجدير بالذكر أن نجاح الهُدن التي جرى التوصل إليها ارتبط بعمليات الإجلاء التي قامت بها السفارات العربية والغربية لرعاياها وليس بالاستقرار والأمن الذي يجب أن يسعى إليهما كل من الفريقين تلبيةً لحاجات المواطنين أو بغية البحث عن مخارج للأزمة. وفي هذا الإطار فإن ما توفر من معلومات حول قبول الطرفين إرسال ممثلين عنهما للتفاوض لن يُفضي سوى إلى تكريس خطوط تماس دائمة داخل المدن تهدأ مع التوصل إلى هُدن مؤقتة أو اتفاقات لوقف إطلاق النار وتشتعل من جديد عند توفر عناصر موجبة للتوتر، وهذا ما سيؤدي إلى تثبيت انقسام سياسي طويل الأمد يستفيد منه الفريقان في تقاسم مكاسب الدولة وثرواتها ويتم استثماره خارجياً في السياسة والاقتصاد وفقاً لتحالفات كل من الفريقين.

في تشابك المصالح الأجنبية

لقد سارع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أول مؤتمر صحافي له من الأمم المتحدة إلى المجاهرة بشرعية وجود "مجموعة فاغنر" في السودان وبحق السودان في الاستفادة من خدماتها، وهذا ما يؤكد الدور الفعال لهذه المجموعة في تخفيف وطأة العقوبات الدولية على روسيا في أعقاب غزو أوكرانيا عام 2022 من خلال استثماراتها في قطاع التعدين والطاقة بالاتفاق مع قوى الأمر الواقع، وهذا ما سينعكس بالتالي على الدور الروسي في الحفاظ على هذه العمليات وتلك الشبكات. طبعا لا يقتصر الوجود الأجنبي الاستثماري على مجموعة فاغنر الروسية، فالمصالح الأوروبية والأميركية في قطاعات التعدين والطاقة وسواها تجري من خلال شركات خاصة أمنية وسواها تقوم بأنشطة اقتصادية وسياسية برعاية قوى الأمر الواقع الشرعية أو الميليشيات القبلية التي تتمتع بمناطق نفوذ لا سيما في الجنوب. 

لقد تركزت المصالح الدولية في السودان حول الاستثمار في ثرواته المعدنية لا سيما الذهب واليورانيوم والطاقة، وقد استفادت من مرحلة البشير الذي وجد فيها فرصة للتعويض عن العقوبات الاقتصادية وتحقيق السيطرة على جزء كبير من الاقتصاد وتشكيل طبقة من رجال الأعمال الموالية له، كما استمرت ما بعد البشير عبر سيطرة الجيش وقوات الدعم السريع من خلال المجلس الانتقالي والفشل في انتقال السلطة السياسية. 
إن حجم وطبيعة المصالح والاستثمارات الأجنبية في السودان يقدم أكثر من مؤشر حول  العلاقات والمصالح المشتركة التي تراكمت بين الدول المستثمرة والقوى العسكرية والميليشيات المحلية للحفاظ على تلك الاستثمارات. وهذا ما يؤكد أن المكونين العسكريين والميليشيات قد أضحوا جزءاً من منظومة المصالح الدولية في السودان وأداة لصراعاتها.

لقد قدم التنوع والأعداد الكبيرة للرعايا الأجانب الذين تم إجلاؤهم عبر بورتسودان أو جواً عبر جيبوتي (936 فرنسيا، ونحو 1000 بريطاني من أصل 4000، وكذلك 700 كندي من أصل  1200، بالإضافة إلى 1200 هندي، و1000 صيني)، وكذلك رعايا كل من ألمانيا (استخدمت أربع طائرات إيرباص في عمليات الإجلاء) والدنمارك والسويد وبلجيكا واليابان وإيطاليا وهولندا وأوكرانيا وجنوب أفريقيا. وقد ذكر التلفزيون السعودي أن ميناء جدة استقبل يوم السبت 29 أبريل سفينة صينية حربية على متنها نحو 500 صيني وأخرى هندية على متنها 300 هندي وسفينة تجارية نقلت 1982 شخصا بينهم 65 إيرانياً، وأن عدد الذين أُجلوا من السودان إلى ميناء جدة منذ بدء عمليات إجلاء الأجانب بلغ نحو 5 آلاف شخص. ولم تقدم الولايات المتحدة بيانات عددية بعمليات الإجلاء سواء التي تمت جواً أو عبر بورتسودان.

ماذا يعني استمرار القتال بالنسبة لدول جوار السودان؟

ترتفع وتيرة القلق الإقليمي، خاصة في دول الجوار السبع من تداعيات قد تدفع باتجاه إعادة تموضع جماعات إرهابية ومتطرفة، والنزوح العابر للدول، وتهريب البشر، والهجرة غير الشرعية، وتنشيط عمل عصابات الجريمة المنظمة، وهو ما يمثل خطراً حقيقياً على الجهود الدولية الرامية إلى تهدئة الصراعات في القارة الأفريقية التي تعاني اضطرابات عديدة. يتشارك السودان- وهو ثالث أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة- مياه النيل بصعوبة مع دولتين إقليميتين ثقيلتين هما مصر وإثيوبيا. وفيما تواجه مصر انخفاضاً في منسوب مياه النيل وتستكمل إثيوبيا المراحل النهائية في بناء السد الضخم عليه، يصبح الحفاظ على الاستقرار في السودان وتمكين الجيش حاجة مصرية لمواجهة تعنت إثيوبيا. فهل تقف مصر مكتوفة الأيدي إذا واجه الجيش السوداني مخاطر الهزيمة؟

بدورها أغلقت تشاد منذ اليوم الأول لاندلاع الاشتباكات في 15 أبريل (نيسان) الحالي، حدودها مع السودان "حتى إشعار آخر"، خوفاً من موجات اللجوء حيث يتشارك البلدان حدودا طولها حوالي ألف كيلومتر، كما تتحسب ليبيا- التي تعاني انقسامات داخلية عميقة- من تأثيرات أمنية جراء الأزمة السودانية؛ فقد سبق للمرتزقة ومقاتلي الميليشيات السودانيين أن لعبوا دوراً نشطاً في الصراع الداخلي الليبي، كذلك ستعيش إثيوبيا تأثيرات الأزمة على المناطق الحدودية التي شهدت نزاعاً محتدماً خلال السنوات الأخيرة، لا سيما خلال الحرب الأهلية التي شهدها إقليم تيغراي منذ عام 2020.

في الاستنتاج

لا زالت الجغرافيا السياسية للأزمة السودانية غامضة ولن يكون الصراع للسيطرة على الأموال السياسية أقل ضراوة منه للسيطرة على ساحة المعركة. لقد اختارت الدول المؤثرة حتى الآن سياسة الانتظار والترقب، وبقدر ما يبدو هذا النهج جديراً بالثناء فهو في الواقع جزء من المشكلة. إذ إن العدد االكبير للوسطاء المحتملين- بما في ذلك الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومصر ودول الخليج والاتحاد الأفريقي وكتلة شرق أفريقيا المكونة من ثماني دول والمعروفة باسم الإيغاد- يمكن أن يعقد جهود السلام أكثر من الحرب نفسها.
إن استمرار الانسداد  السياسي سيجعل من الحرب القائمة بمثابة جولة أولى من حرب أهلية منتظرة يتحول معها الصراع إلى لعبة متعددة المستويات في خدمة الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية التي تسعى لتحقيق مصالحها، باستخدام الأموال وإمدادات الأسلحة وربما بقواتها أو وكلائها.

فهل هناك طريقة أخرى لوقف هذا الطوفان من العنف بما يتيح للسودانيين البناء على المشاركة السياسية التي ناضل من أجلها النشطاء اللاعنفيون قبل أربع سنوات؟

العميد الركن خالد حمادة - المجلة

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o