Nov 22, 2022 7:40 AM
مقالات

مونديال قطر 2022 والمونديال الرئاسي

تحت خيمة عملاقة مستوحاة من بيت الشعر الذي سكنه أهل البادية إستقبلت قطر جماهير مليونية من الدول المشاركة أو المشجعة لمباريات كأس العالم لكرة القدم 2022، وخلف الخطوط البيضاء والسوداء التي زيّنت واجهتها الخارجية كبيوت القبائل والعوائل البدوية شُيّد أحد أكثر ستادات كرة القدم تفوّقاً في الحداثة. ومن خلال مشهديّة جمعت إحترام التقاليد وخوض غمار الحداثة قدّمت دولة قطر نفسها أمام أمم الأرض دوحة حاضنة للتنوّع الثقافي والتفاعل الإنساني السلمي، في زمن تتساقط فيه قيم المساواة والحرية والأخوّة في العالم ويستعيد الغرب توترات عرفها في قرون مضت وترتفع مجدداً رايات العصبيات الطائفية والعرقية والقومية.

مفاهيم الفضاء المفتوح للتواصل الإنساني والحضاري التي أوردها أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في كلمته «من بلاد العرب»، ودعوة الناس على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وعقائدهم وتوجهاتهم أن يضعوا ما يفرقهم جانباً ويحتفوا بتنوّعهم وبما يجمعهم، جسّدت قيّم الهوية الخليجية الجديدة ونظرتها للإنسانية وتجربتها الطويلة والناجحة في إدارة التعدّدية - حيث لا يتجاوز عدد المواطنين في قطر نسبة 18% من عدد السكان.

وبالرغم من فرادة الحدث الكروي لجهة إقامته للمرة الأولى في بلد عربي منذ العام 1930 والتقنيات المتقدّمة والإمكانات الهائلة المالية والبشرية التي سُخّرت لإنجاحه، والعروض الباهرة التي قُدّمت في حفل الإفتتاح، فإنّ النجاح في إظهار التماهي بين البعد الحضاري للحدث والبعد القيمي التسامحي للإسلام تبقى الرسالة الأكثر أهمية التي سيحملها مئات الآلاف من الزائرين الى مجتمعاتهم التي شُحنت لسنوات خلت بعدائية ممنهجة وتعرّضت ربما لإعتداءات من متطرفين استُخدموا من قِبل أجهزة الإستخبارات لصناعة رأي عام معادٍ للعرب وتبرير الإعتداء على المنطقة العربية.

تشكّلت تجربة قطر في احتضان التعدّدية بعد النهضة الإقتصادية التي عرفتها البلاد إبّان الفورة النفطية، وهي تتطور يوماً بعد يوم بفضل نمو قطاعات أخرى بفعل تراكم الثروة وتوسّع الإستثمارات الأجنبية. لقد أضحى النجاح في إدارة هذه التعدّدية سلوكاً يتّسق مع حماية المصالح الوطنية، ليس فقط بسبب الحاجة الى كوادر متخصصة بل بفعل الدور المتجدّد للدولة التي تغيّر وجهها ودورها الإقليمي وأضحت جزءاً من الأمن الطاقوي على مستوى العالم. وبهذا المعنى أصبحت التعدّدية قيمة مضافة في التسامح وقبول الآخر تنشدها قطر، وهو ما ثابرت وعاندت على إظهاره أمام العالم من خلال الإصرار على استضافة الحدث الكروي واستثماره في تغيير الصورة النمطيّة للدول الخليجية وقيم الدولة والمجتمع فيها. التعدّدية في قطر تجربة فرضتها الضرورة الإقتصادية حيث تماهى المجتمع والدولة معها فُشرّعت القوانين لحمايتها وضبط تكامل المكوّنات الجديدة الوافدة مع المكوّن المحلي الوطني.

التعدّدية في لبنان هي تعدّدية تكوينية ووجودية. لبنان الصغير أو إمارة جبل لبنان قامت على التعدّدية وسجّلت تجربة فريدة ليس في الشرق وحده بل على امتداد العالم أجمع. هذه التجربة التي امتدت نحو ثلاثة قرون عرفت خلالها الإمارة إزدهاراً كبيراً، حيث أضاف تأسيس دولة لبنان الكبير منذ مئة عام للإمارة الجبلية مكوّنات إضافية ووضعها أمام تحدٍّ جديد لاستيعابها. لقد أدى عدم المساواة في إشراك المجموعات اللبنانية في الحياة الوطنية الى أزمات ما زال لبنان يعاني تداعياتها، فكانت الحلول دائماً بإرساء تهدئة مرحلية وفق توازنات فرضتها اللحظة عبر توزيع مكاسب الدولة والحكم على المجموعات الطائفية. ففي حين يدرك الجميع أنّ إدارة التعدّدية في لبنان ليست خياراً بل قضاءً وقدراً، وأنّ التجربة اللبنانية في إدارة هذه التعدّدية هي نموذج لفشل متكرر، فإنّ الغرابة تكمن في عدم أخذ العبرة والإمعان في خوض الصراعات السياسية تحت عنوان حماية التعدّدية عن طريق تعطيل المؤسسات لأجلها، بحيث يصبح التلويح بفض الشراكة الوطنية أو بإستخدام السلاح تثبيتاً لحقوق فئوية تهديداً ماثلاً امام اللبنانيين.

يجدّد اللبنانيون منذ نهاية الشهر المنصرم تجربتهم الفاشلة في إدارة تعدّديتهم التكوينية، عبر مهازل دستورية يرتكبها ممثلو الأمّة في سياق ما يسمّى بإنتخاب رئيس جديد لجمهورية أضحت أثراً بعد عين. أضحت إنتخابات الرئاسة مونديالاً لبنانياً يتجدّد كلّ ستة أعوام على «ستاد البيوت اللبنانية المتنازعة» حيث يتقاذف زعماء القبائل والطوائف من دون خجل مصالح لبنان ودستوره، ويقيمون مكائدهم الرخيصة ويستجدون الخارج لترجيح كفة أحدهم على ملعب يمتد من بيروت إلى طهران ودائماً تحت شعار التوافق وحماية التعدّدية والعيش المشترك.

بالأمس، في مونديال قطر 2022 إستحضرت الدولة إرث البادية وقيمها وقدّمت حداثتها وتعدّديتها المستجدة في ظلّ سلطة تحميها، كامتداد طبيعي وانسيابي لهذه القيم، وفي لبنان الذي عرف انتظام الدولة التعدّدية وقيادتها منذ القرن السادس عشر في ظلّ الإمارة المعنيّة، تعود المجموعات اللبنانية الى بداوتها حيث يقدّم المونديال الرئاسي نموذجاً لإنحناء الدستور وإخضاع القانون لأحكام التعدّدية التكوينية أو شراهة وغطرسة أحد مكوّناتها.

العميد الركن خالد حماده - اللواء

 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o