Oct 25, 2022 6:47 AM
مقالات

هنيئاً وألف طوبى للقصر الجمهوري

يجهد اللبنانيون في الأيام الأخيرة المتبقيّة من ولاية الرئيس ميشال عون في تصوّر الإجراءات التي قد يلجأ إليها الرئيس لإلحاق المزيد من الأذى بالحياة الوطنية أو ما تبقّى منها. التجربة مع هذا الرجل تثبت عجز المخيّلة البشرية مهما بلغت من الخصوبة مقارعة ذلك المستوى من السلبية وذلك الإمعان في التدمير الذي اتّسم به العهد البائد بحق الدستور والإقتصاد والعلاقات الدولية. ويأتي قبل كلّ ذلك الإصرار على استثارة الحساسيات والغرائز بين اللبنانيين واعتماد مسار في الإدارة لم يحترم كفاءة اللبنانيين وعقولهم وقدراتهم وإرثهم، بل المجاهرة ودون أي قدر من الحياء بوضع اليد حيثما اشتهى أفراد الأسرة الحاكمة وامتداداتهم العائلية ومصالحهم الشخصية لتكديس الثروة وتكريس التسلط. هذا ليس قدراً فُرض على اللبنانيين كما يحاول البعض تصويره، بل هو مصير اخترناه بملء إرادتنا عندما استسلمنا لتسويات مشبوهة بعقول طفولية، واسترسلنا في فساد اعتقدنا أنه طريقة حياة تفرّدنا بها وأدرناها بذكاء امتلكناه حصراً كلبنانيين دون سوانا.

لا يصح فينا القول « أنّ السحر قد انقلب على الساحر»، إنّ ما يحصل هو النهاية المنطقية لمسار من الحوْكمة الرديئة على امتداد عهد رئاسي سادته زبائنيّة غير مسبوقة وخرق متعمّد للدستور وفساد موصوف، ولم يعتريه نذرٌ من أخلاق واحترام للذات والتزام وطني. إنّ ما يُرتكب من مهازل دستورية تحت قبة البرلمان كلّ أسبوع عبر دورات انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يؤكّد إنّ أفول العهد وانقضاء عمره الدستوري لن يكون نهاية لمسار الإنهيار والتحلل على مستوى الدولة والمؤسسات، بل ربما إنطلاقة لسلسة من ممارسات تستمد ديناميتها وحيويتها من الفراغ الرئاسي نحو مزيد من الإستباحة والإنحدار.

إنفطر اللبنانيون على انتظار التسويات ما بين العهود الرئاسية أو خلال أزمات تشكيل الحكومات، وقد أصبحت نمطاً ثابتاً في حياتهم الوطنية طيلة العقود الأربعة المنصرمة. هم اعتادوا البناء عليها دون الإستناد إلى أي معطى حقيقي حتى أصبحت جزءاً من لاوعيهم، فالتسوية بنظرهم قادمة لا محال. ربما هم يختلفون في توقيتها ولكنها دائماً في خدمتهم بحيث يتراءى للبعض منهم لا سيما المأخوذين بفكرة الفرادة اللبنانية، أنّ العالم ينتظر الفرصة السانحة لإرضاء تفوقهم وربما قد يعتذر بعض هذا العالم عن التأخر في الإستجابة لما ينتظرونه. ما يحب أن يتناساه اللبنانون أنّ التسويات لم تعد الضمانة لعدم جنوح لبنان نحو هذا المحور أو ذاك ولاستمراره كحاجة في الموقع العربي الصحيح، فتسويات اليوم لم يعد لبنان أحد لاعبيها بل أضحى ملعبها وموضوعها، وأصبحت سيادة لبنان واستقراره وحرية قراره أثماناً وجوائز ترضيّة تُدفع عند كل إستحقاق. هذا ما أثبتته كلّ التسويات التي عُقدت عند كلّ استحقاق رئاسي وعند كلّ تعثر حكومي، وهذا ما اختصرته العناوين الفارغة التي حملتها كلّ التسويات والتي أثبتت إنها لم تكن سوى عناوين إعلانية محكومة بالفشل.

نظريات فصل الإقتصاد عن السياسة لم تؤدِّ الى إشباع شراهة حاكم دمشق بل الى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ونظرية ربط النزاع مع حزب الله لم تؤدِّ سوى الى الهيمنة المطلقة على القرار السياسي في الإقتصاد وإنتاج السلطة وحتى في التّصدي لجائحة كورونا، ونظرية الفصل بين الدور العسكري لحزب الله في سوريا ودوره في لبنان لم تؤدِّ سوى الى مزيد من التسيْب على الحدود واستفحال الأنشطة غير المشروعة عبرها وعزل لبنان عربياً، هذا ولا ننسى ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة التي جرّدت الدولة من دورها في حماية السيادة الوطنية لتمتشق دوراً آخر في فرض اتّفاق الترسيم البحري مع العدو الإسرائيلي وحماية الحدود المصطنعة ودائماً مع إلزامية الإعتراف بالجميل شاء من شاء وأبى من أبى.

نقف اليوم على عتبة استحقاق رئاسي جديد وقد انتقل العقل السياسي اللبناني من الرهان على التسويات الى المراهنة على ما يمكن أن يقدّمه لاستدراج التسوية. إنّ وضع العقبات بوجه الرئيس المكلّف والسير بحملة تضليل هدفها التشكيك بدستورية إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء في وضع تصريف الأعمال هو أول الغيث في مسار تعميق الإنقسام الوطني وإيجاد الأرضية المناسبة لافتعال أزمة سياسية، وإنضاج الظروف لاستدعاء الخارج لفرض التسوية. ولم تكن الدعوة للعشاء من قبل السفارة السويسرية سوى طبقاً فرنسياً مسموماً يستكمل مسار السمسرات التي بدأتها باريس منذ «مؤتمر سيدر» وانتخاب الرئيس ميشال عون مروراً بإفشال حكومات التكنوقراط ووصولاً الى تسوية شركة توتال في حقل قانا.

هنيئاً للقصر الجمهوري في بعبدا انتقال الرئيس عون المنتهية ولايته الى الرابية، وألف طوبى لهذا القصر على معاناته ومشاهداته لإعتداءات متكررة على دستور لبنان. إنّ خروج عون من بعبدا لن يعني انتهاء صلاحيته في استكمال العبث باتّفاق الطائف الذي دأب عليه، بل يعني إنتقالاً جغرافياً لرأس الأزمة وعدّتها التشغيلية الى موقع جديد، ومحاولة اختلاق حالة شعبية حاضنة للقول إنّ لبنان منقسم بين سلطة في السرايا الحكومي مشكوك بدستوريتها وأخرى في الرابية لها مشروعيتها الشعبية. وعلى هذا الإنقسام ستُختبر مناعة المؤسسات ورؤسائها ومنها المؤسسات الدستورية والأمنية في التعامل مع الواقع الجديد، وسيتوزع الوسطاء والموفدون الدوليون لإتاحة المجال نحو مزيد من الهشاشة ومزيد من التدخل.

قد لا يلاقي توقيت التسوية القادمة وشروطها طموحات اللبنانيين الحالمين بها، وربما يستدعي استعجال تدخل الخارج عاملاً أمنياً يمكن أن يضاف في حينه. ولكن في مطلق الأحوال سيُلقي الوضع القادم على اللبنانيين الشركاء في المواطنة مسؤولية جديّة في البحث عن قواسم مشتركة ومضامين جديدة لهوية وطنية حقيقية.

العميد الركن خالد حماده - اللواء

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o