Feb 01, 2022 8:27 PM
مقالات

من "السوديت" إلى "دونباس".. عودة أوروبا إلى إرثها الدموي

عندما تكون القضية مسألة أمن قومي، تحتاج التسوية إلى معجزة، ولأننا لسنا في زمن المعجزات ولا الزعماء التاريخيين، لذلك يمكن القول إننا في مرحلة يحاول فيها بعض القادة صناعة الأحداث حتى لو كانت مأساوية بهدف حجز مكان لهم في التاريخ، وهذا ما قد يجعل من أوكرانيا مسرحا لصناعة تاريخ أوروبي جديد، كما كانت تشيكوسلوفاكيا حيزا لصناعة تاريخ أوروبي دموي.

حتى الآن، فرصة التسوية بين الروس والغرب شبه معدومة والسبب انعدام الثقة بينهما، فكلاهما غير قادر على التراجع، وأي خطوة ولو واحدة إلى الوراء أشبه بهزيمة ستكون سببا لهزائم متلاحقة، لذلك باتت المواجهة ممكنة، كونها بالنسبة لأحد الأطراف شرعية وجودية.

روسيا الصاعدة عسكريا واستراتيجيا باتت ترفض الالتزام بمخرجات الحرب الباردة وانتصار المعسكر الغربي، أو القبول بالأحادية القطبية، وتطالب من خلال الورقة التي قدمتها لواشنطن وبروكسل بالعودة إلى توازنات نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يعني ليس فقط استعادة سلطتها على الفضاء السوفياتي بل الهيمنة على المجال الحيوي السوفياتي، أي عودة المعسكر الشرقي، ومن أجل تحقيق ذلك اختارت المواجهة.

المعضلة أن الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية وورقة المطالب بانسحاب الناتو من دول أوروبا الشرقية، لا تعيد الأزمة الأوروبية إلى سنة 1945، بل أنها تعيد إلى ذاكرة الأوروبيين السيناريو الأسوأ وهو السنوات التي سبقت بداية الحرب العالمية الثانية، أي ما بين 1937 و1939 وبالتحديد أزمة إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي حيث الأغلبية ألمانية، وقرار أدولف هتلر استعادته، حيث تذكر الوثائق التاريخية أن زعماء أوروبا اجتمعوا في ميونخ 1938 لثنيه عن احتلال تشيك، رضخوا لمطالبه ولكنهم نجحوا فقط في تأجيل الحرب، لأن طبيعة الرايخ الرابع في تلك المرحلة لا تختلف عن طبيعة السلطة في روسيا، حيث كانت القيادة العسكرية الألمانية تريد أن تنتهي من التزامات ما بعد الحرب العالمية الأولى والانتقام من النظام الغربي الذي عاقب ألمانيا، كما يفكر الكرملين الآن في رفض هزيمة 1991 والانتقام من هزيمة المعسكر الشرق والنظام العالمي الجديد.

لذلك ما حدث في اجتماع ميونخ سنة 1938 ما بين هتلر وموسوليني ورئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين والفرنسي دلادييه، وبغياب صاحب العلاقة (التشيك)، لن يختلف عن أي اجتماع يعقده أو سيعقده القادة الغربيون مع القيادة الروسية، حيث من الصعب أن يلتزم الكرملين بأي اتفاق أو تعهدات، بعدما وضع ورقة شروط صعبة أشبه باعتراف غربي بهزيمة لم تحدث. خصوصا أن إقرار الأوروبيين بضم إقليم السوديت 1938 لا يختلف عن إقرارهم الضمني بهيمنة الروسية على إقليم دونباس 2014، والأولى كانت ذريعة لاحتلال كامل التشيك والآن تواجه أوروبا تهديدا باحتلال كامل لأوكرانيا.

عمليا تعيد مخاطر الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية إرث النظام العالمي الجديد، وستفرض على الدول الغربية المواجهة، دفاعا عن قيمها وارثها، أمام قوة استبدادية غير معنية في رأي عام داخلي ولا في صناديق الاقتراع، وهذا ما يفرض على الولايات المتحدة مقاربة أخرى تقرض عليها الاختيار ما بين الإمبراطورية والديمقراطية، حيث من الصعب على أي مقيم في البيت الأبيض بعد الآن أن يحدد موقع بلاده على الساحة الدولية إذا ما لم يتخذ قرارا مفصليا في موضوع أوكرانيا.

من سوديت إلى دونباس لا يختلف تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن أن موسكو لا تريد الحرب في أوكرانيا، وترك الباب مفتوحاً أمام احتمال عقد جولات إضافية للحوار مع الغرب عن المهلة التي أعطتها برلين النازية للزعماء الأوروبيين بعد قمة ميونخ  1938 إلا في الفارق الزمني بين أزمتين متشابهتين، الأولى أدت إلى حرب عالمية والثانية قد تتسبب بحرب إقليمية، فبوتين الذي اقتطع إقليم دونباس كما فعل هتلر بإقليم السوديت بات ممكنا أن يتوغل في أوكرانيا كما  قام هتلر باحتلال كافة تشكولسوفاكيا بعد سنة من استحواذه على سوديت، وبالعودة إلى ردود بوتين على الوثيقة التي قدمتها واشنطن قبل أيام لا توحي تراجعا روسيا عن المطالبة بالالتزام بكافة الضمانات الأمنية، حيث يستهلك بوتين الوقت في أحاديثه مع القادة الأوروبيين وفي اجتماعات مجموعة النورماندي ولجنة مينسك، لكنها لا تثنيه عن هدفه وهو العودة إلى تفاهمات 1997 مع الناتو والتي من خلالها يعيد إحياء إرث نهاية الحرب العالمية الثانية وإلا...

الحرة - مصطفى فحص

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o