Dec 28, 2021 9:48 AM
مقالات

اللبنانيون المقيمون في العالم.. كيف نجعلهم قوة لإحياء لبنان

كتب الدكتور فيليب سالم في جريدة "النهار" الأستراليّة:

عندما تتكلم عن لبنان في نيويورك، او في مدينة المكسيك او في بونا سيرس او في مدينة سيدني، استراليا، لا يتبادر الى ذهن السامع أنك تتكلم عن لبنان الدولة. فلبنان الدولة ليس له وجود يليق به. له وجود هزيل لا يتعدى صداه الحدود الجغرافية للبنان. ولكن يتبادر الى ذهن السامع ذلك اللبنان المصلوب في الشرق، لبنان الحضارة المميزة بالحرية والتعددية الحضارية. لبنان الرسالة. كما يتبادر الى ذهنه لبنان الذي يغوص في التاريخ؛ ولبنان الذي بنى مدنا كانت منائر الحضارة. بنى جبيل وبيروت وصيدا وصور وبعلبك. ويتبادر ايضا الى ذهنه هذا اللبنان المنتشر على مساحة الأرض كلها. أينما تذهب في العالم تراهم. عيونهم مسمرة الى قطعة صغيرة من الأرض، مصلوبة في الشرق بين إسرائيل وسوريا والبحر الأبيض المتوسط. وحده البحر يعانقها بحنان ومحبة. تعرفهم من محبتهم لهذه الأرض. محبتهم الى القرى المتناثرة هنا وهناك على الهضاب والجبال والساحل. حنينهم دائما الى أهلهم الذين ربوهم على الصبر والعمل الدؤوب ومحبة الناس. ربوهم على الكرامة. يقف المتسولون في الولايات المتحدة الأميركية على تقاطع الطرق ويملؤون ساحات المدن؛ ولكن ليس هناك بينهم متسول واحد من أصل لبناني. هذا شعب له عنفوانه. هذا شعب عنيد لا ينحني الا في الصلاة لله .

ويتميز هؤلاء اللبنانيون عن غيرهم من المهاجرين، بأنهم لم يذهبوا الى ارض في الأرض الّا وساهموا في بنائها وصنع حضارتها. لم يذهبوا الى مكان ليدمروا بل ليبنوا. لم يذهبوا الى مكان لصنع الحروب والنزاعات بل ذهبوا لصنع السلام والازدهار. لقد وقف يوما جبران خليل جبران على مشارف مدينة نيويورك وصرخ قائلا " ايتها المدينة نحن هنا ليس لنأخذ فقط بل لنعطي ايضاً، نحن هنا لنشارك في صنع مستقبلك ولنغني حضارتك". وكانت رسالة هؤلاء اللبنانيين دائما رسالة عالمية. لقد تكلم جبران عن قوة المحبة كما تكلم عن عظمة الروح. قال "ان ما تراه في الانسان بالعين المجردة ليس مهما بقدر ما هو مهم ما لا تراه ". وتكلم جبران عن الله بصلاة جديدة. كان مؤمنا برسالة المسيح  ولكنه لم ينتمِ الى دين معين. لقد انتمى الى دين يقدس الانسان. كل انسان.  كائناً من كان هذا الانسان. وانتهى جبران بقناعة ثابتة "بأن البشرية جمعاء هي عائلته". ومايكل دبغي جراح القلب الشهير لم تكن إنجازاته الطبية في خدمة الاميركيين او اللبنانيين من المرضى فقط، بل كانت في خدمة شعوب العالم كلها. قبله كانت مدينة هيوستن مدينة عادية. بعده أصبحت هذه المدينة عاصمة العالم كله في الطب. وداني توماس، هذا الرجل الفقير الذي جاء أهله من لبنان لم يشيد أعظم مستشفى في العالم للأمراض السرطانية عند الأطفال في Memphis,Tennessee لمعالجة المرضى من الولايات المتحدة الأميركية فقط، لقد بنى هذا الصرح الطبي هدية لكل الأطفال في العالم. فهو لم يميز بين طفل ابيض وطفل اسود، او بين طفل غني وطفل فقير. كانت عالمية الرسالة ولا تزال هي قوة الرسالة.

ويتميز هؤلاء اللبنانيون أيضا بان الشعوب التي حضنتهم احبتهم. لقد احبتهم لقلوبهم الطيبة، ولكرمهم. احبتهم لاحترامهم الآخر ولقدرتهم على الانخراط في مجتمعاتهم ومساهماتهم في احياء هذه المجتمعات. كما احبتهم لأنهم جاؤوا بثقافة الفرح وثقافة الحياة. عندما هاجروا من لبنان لم يأخذوا معهم الا الحضارة وحفنة من تراب الأرض، ليشموا رائحتها كلما اشتاقوا الى تلك الأرض. في خطاب تاريخي قال رئيس جمهورية المكسيك السيد ادولفو لوبيز ماتيوس " اذا لم يكن لديك صديق لبناني، فيجب ان تفتش عن واحد".

هذا الانتشار اللبناني وهذا الحضور المهيب في العالم هما نفط لبنان الحقيقي. ان نفط لبنان في مياهه ليس شيئا مقارنة بنفطه في العالم. نفطه في البحر سينضب يوما، اما نفطه في العالم فلن ينضب ابداً. النفط في مياهنا قوة اقتصادية فقط،أمّا نفط الانتشار فهو قوى متعددة بالإضافة الى القوة الاقتصادية. انه قوة في العلم. قوة في السياسة. قوة في الطب. قوة في الفن. قوة في الادب. قوة في التربية. انه قوة تجمع حضارات العالم كلها.  ولكن من المؤسف أنّ لبنان المقيم لم يعرف كيف يتعاطى مع هذه القوة، فذهبت هدراً. ونحن لا نزال الى يومنا هذا نتعاطى مع هذه القوة بشكل بدائي؛ اذ اننا نعتبرها قوة اقتصادية فقط، يدعم بها المهاجرون أهلهم في لبنان. هذه القوة التي استفاد ويستفيد منها لبنان هي اقل من 1% من القوة الحقيقية التي يمكن ان يوفّرها الانتشار للبنانه.

في بناء لبنان الجديد نحن بحاجة الى كل القوى التي يمتلكها الوجود اللبناني في العالم. وأكثر ما نحتاج اليه هو قوة العلم. فخذ مثلا مؤسسة   Cancer Center M.D.Anderson  حيث عملت كأستاذ فيها لسنين عديدة. هذا المركز هو اهم مركز في العالم للأبحاث السرطانية ومعالجتها. في هذا المركز يوجد أكثر من ثلاثين طبيبا من هذا البلد الصغير الذي اسمه لبنان. ليس هناك دولة واحدة اخرى في العالم تمتلك هذا العدد من الأطباء في هذا المركز. أينما ذهبت في مدن وجامعات اميركا ترى المبدعين اللبنانيين هناك. العلم هو اساس الدولة، وقوة إسرائيل لا تنحصر بقوتها العسكرية بل تتعداها الى قوة العلم فيها. فهذه الدولة الصغيرة التي تمتد جنوبا من حدودنا الجنوبية، ومساحتها صغيرة كمساحة لبنان وعدد سكانها قليل مثل لبنان، الا ان جامعاتها تنافس أكبر الجامعات وأعظمها في الولايات المتحدة الأميركية، لأن العلم  في العقل اليهودي هو مصدر القوة. ان لبنان وإسرائيل متشابهان فكلاهما حدودهما لا تنتهي عند الحدود الجغرافية. وكلاهما يمتلكان انتشاراً واسعا في العالم.  ولكن الانتشار اليهودي يختلف كثيرا عن الانتشار اللبناني. علاقة الانتشار اللبناني بالوطن هي علاقة رحبانية، علاقة فيروزية، علاقة روحية، علاقة المنتشر بالأرض والاهل في لبنان. لم نتمكن بعد ان نرتقي بهذه العلاقة الى العلاقة الوطنية حيث يصبح المنتشر قوة داعمة لوطنه. ان اللبناني المنتشر لا يزال ينتمي الى الأرض أكثر مما ينتمي الى الوطن. عكس ذلك هو اليهودي فعلاقته بإسرائيل هي علاقة وطنية صرف. كلّ يهودي يعتبر نفسه مسؤولاً الى حد بعيد عن دعم دولة إسرائيل. ان اللبناني لم يرتقِ بعد الى هذه العلاقة الوطنية ومن أهم الأسباب لذلك هو عدم ثقة المنتشر اللبناني بدولته، إلى كونه يعتبر نفسه هارباً من بلاده، هارباً من الظلم والفساد. إسرائيل هي محط أنظار كل يهودي في العالم. إنها ارض الميعاد لهم. كل يهودي يعيش في العالم، يعيش في إسرائيل. يعيش فيها إمّا في الحقيقة وإمّا في الافتراض. واللّبناني عكس اليهودي يحتقر دولته ولا يثق بها. وأردت ان أتكلم عن الانتشار اللبناني مقارنة بالانتشار اليهودي، لأن اللبنانية العالمية يجب ان تتعلم من اليهودية العالمية. يجب ان نتعلم الامور التالية:

أولا. ان العلاقة الفيروزية وحدها لا تبني وطنا ويجب ان نرتقي الى العلاقة الوطنية. أنا افهم عدم ثقة المنتشر اللبناني بالدولة اللبنانية الا انه يجب ان نثّمر في ثقتنا بالشعب اللبناني. ان هذا الشعب الذي ضل الطريق نتيجة الثقافة السياسية الشعبية التقليدية في لبنان التي افرزت هذه الطبقة الفاسدة بوسعه الانتفاضة على هذه الثقافة والتحرر منها . نحن نثق بهذا الشعب ولا خيار لدينا غير الايمان به.

ثانيا. أهمّ ما يمكننا ان نعمله في الانتشار هو توحيد هذا الانتشار تحت قيادة حكيمة واحدة. فالانتشار كما هو اليوم مشرذم كاللبنانيين المقيمين. كل ذلك يعود إلى عدم وجود قيادة سياسية في لبنان. ليومنا هذا لم تأت قيادة حكيمة قادرة على صنع رؤية موحدة لهذا الوطن. فتوحيد الانتشار هو تحدٍّ كبير لنا وان لم نتمكن من تحقيقه تبقى قدرة هذا الانتشار على إحياء لبنان ضعيفة جداً. 

ثالثا. يجب تفعيل هذا الانتشار بحيث يشعر كل لبناني منتشر بمسؤولية صنع مستقبل أهله وأقاربه وشعبه في لبنان. يجب ان يصبح لبنان بالنسبة الى اللبنانية العالمية كما هي إسرائيل بالنسبة الى اليهودية العالمية.

رابعا. يجب بناء لوبي لبناني فاعل في دول العالم كله وان تكون قيادته في الولايات المتحدة الأميركية حيث تؤخذ القرارات الأساسية والكبرى لمستقبل لبنان ومستقبل الشرق الأوسط. وليس لدي أي شك اننا قادرون على انشاء لوبي ضاغط وفاعل يعمل مع الإدارة الأميركية ومع الدول الأوروبية للمحافظة على استقلال لبنان وسيادته وحريته، ونحن اليوم بحاجة الى هذا اللوبي أكثر من أي يوم مضى.

خامسا. ما يجب ان نفعله اليوم هو ان نحول اللبنانية العالمية الى قوة تغيير في لبنان. ان كل القوى السياسية التي رفعت شعار التغيير والإصلاح في لبنان قد فشلت. وأخطر من ذلك ان هذه القوى كلها كانت ضد التغيير والإصلاح. كانت قوى فاسدة تعمل في سبيل مصالحها الخاصة دون الاهتمام بمصالح لبنان. وبعكس اللبنانيين المقيمين، المنتشرون متحررون من القيود التي تكبّل وطنهم. فالمنتشر قد عاش في دول ومجتمعات تعرف معنى الحرية وتعرف معنى الديمقراطية ومعنى احترام الاخر ومعنى النزاهة في الحكم. نحن نمتلك اليوم فرصة تاريخية للتغيير بالطرق الديمقراطية وهي الانتخابات النيابية المقبلة. وبالرغم من انني على ثقة بان السلطة ستعمل كل ما بوسعها لإلغاء هذه الانتخابات، علينا ان نكون حاضرين لها ويجب ان نعي ان مسؤوليتنا في هذه الانتخابات هي فرز طبقة جديدة من السياسيين يكون ولاؤهم أولا وأخيرا للبنان وتكون لهم القدرة على بناء الدولة.

ان لبناننا يواجه اليوم أزمة وجودية ومصيرية، فوجوده السياسي والحضاري في الشرق مهدد اذ تقبض على قراره قوة سياسية تمتلك أيديولوجية غريبة عنه وعنا. ايديولوجية متجذرة في الدين تؤمن بأن القوة العسكرية هي الخيار الوحيد لتمددها، كما تؤمن ايضا بان من لا ينتمي اليها بالدين هو عدو لها. هذه القوة هي الثورة الإيرانية الإسلامية التي تعتنق الدين كمرتكز أساسي للسياسة بينما نحن نعمل على فصل الدين عن الدولة وبناء دولة مدنية في لبنان. هذه الثورة الإسلامية لا تريد تغيير الجغرافيا السياسية في الشرق فقط بل تريد أيضا تغيير الجغرافيا الحضارية. انها حضارة أحادية لا تؤمن باحترام الآخر. حضارة خارج حضارة العالم اذ تؤمن بثقافة الاستشهاد وثقافة الموت بينما نحن نؤمن بثقافة الحياة وثقافة الفرح. من اجل ذلك كله نحن ندعو كل اللبنانيين مقيمين ومنتشرين الى عدم القبول بالواقع وبعدم الإستسلام للإحباط، وإلى الرفض الكامل والصلب لهيمنة الثورة الإيرانية على لبنان. لذا يجب احياء الثورة في الداخل اللبناني  وتفعيل الانتشار اللبناني في العالم وجعله قوة كبيرة للتغيير ولإحياء لبنان.

لبنان يستحق ان نحبّه. يستحق ان يكون الولاء له وحده. يستحق ان يحيا.  وتليق به الحياة. وان لم نعمل على تحقيق ما يستحق، نكون نحن مقيميين في لبنان ومقيمين في العالم شعباً لا نستحقه. 

 

 

 

 

 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o