Dec 14, 2021 9:21 AM
اقليميات

هل تعيد سوريا بناء برنامج للأسلحة الكيميائية؟

بعد منتصف ليل 8 حزيران (يونيو) بقليل، اجتازت الطائرات الحربية الإسرائيلية خط الحدود الشمالية للبلاد لشن غارة جوية استثنائية للغاية في عمق الأراضي السورية. أطلقت الطائرات صواريخها على ثلاثة أهداف عسكرية بالقرب من مدينتي دمشق وحمص، ما أسفر عن مقتل سبعة جنود بينهم عقيد وصفته تقارير إخبارية محلية بأنه "شهيد بطل"، ومهندس يعمل في مختبر عسكري سوري سري للغاية.

امتنع الجيش الإسرائيلي، كما اعتاد أن يفعل، عن التعليق على التوغل في المجال الجوي السوري. لكن سرعان ما لاحظ محللو المعلومات الاستخباراتية في العواصم الغربية وجود اختلاف في هذه العملية: ففي حين أن الهجمات الإسرائيلية السابقة في سورية دأبت على استهداف القوات التي تقاتل بالوكالة عن إيران وشحنات الأسلحة، فإن غارة 8 حزيران كانت تستهدف منشآتٍ عسكرية سورية، وجميعها ذات صلة ببرامج الأسلحة الكيميائية السابقة لسوريا.

وظهر التفسير في الأسابيع التالية. فوفقاً لمسؤولين حاليين وسابقين في الاستخبارات والأمن، مطّلعين على الأمر، كانت غارة 8 حزيران جزءاً من حملة لوقف ما يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أنه محاولة جديدة من جانب سوريا لاستئناف إنتاج غازات الأعصاب القاتلة.

أمر المسؤولون الإسرائيليون بشن الغارة كما أمروا قبلها بعام بشن غارة مماثلة، وذلك بناءً على معلومات استخباراتية تشير إلى أن الحكومة السورية كانت تحصل على مركّبات طليعية وإمدادات أخرى ضرورية لإعادة بناء قدرة الأسلحة الكيميائية كانت سوريا قد تخلت عنها ظاهرياً قبل ثماني سنوات، وذلك حسب أربعة مسؤولين سابقين وحاليين في الاستخبارات الأميركية والغربية ، وقد تحدثوا شرط عدم الكشف عن هويتهم خلال مناقشة المواد السرية ونظراً لفهمهم للمداولات الإسرائيلية.

وقال المسؤولون إن الهجمات عكست مخاوف خطيرة أثيرت داخل وكالات الاستخبارات الإسرائيلية قبل عامين، وذلك بعد محاولة ناجحة من جانب الجيش السوري لاستيراد مادة كيميائية رئيسية يمكن استخدامها في صنع غاز السارين القاتل. وقال المسؤولون إن المخاوف تنامت عندما اكتشف عملاء الاستخبارات نشاطاً في مواقع متعددة يشير إلى جهود لإعادة البناء.

وردّاً على طلبٍ للإدلاء بتعليق، لم يؤكد المسؤولون الإسرائيليون الهجمات ولم يوضحوا أسبابها. أمّا سوريا فدانت بشدة الهجمات الإسرائيلية في ذلك الوقت، ونفى المسؤولون الحكوميون مراراً استخدام أسلحة كيميائية أو صنعها منذ عام 2013

وقال سفير سوريا لدى الأمم المتحدة  بسام صباغ، ، في خطاب أمام مجلس الأمن في تشرين الأول (أكتوبر)، إن سوريا "تدين وترفض رفضاً قاطعاً أي استخدام للأسلحة الكيميائية تحت أي ظرف من الظروف، أيّاً كان من يستخدمها وفي أي وقت وفي أي مكان".

ويُنظر إلى احتمال إعادة بناء برنامج أسلحة كيميائية في سوريا على أنه تهديد مباشر لأمن إسرائيل، بل وربما يكون تهديداً للدول المجاورة الأخرى. ففي حين اشتهر الرئيس السوري بشار الأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد مواطنيه عشرات المرات منذ بداية الحرب الأهلية في البلاد، إلا أن الترسانة الكيميائية السورية الواسعة كانت في الأصل مخصصة للاستخدام في خضم حرب مستقبلية مع إسرائيل.

وقال مسؤول استخباراتي غربي "إنه سلاح استراتيجي للنظام" ملخصاً بذلك حالة الإجماع بين وكالات التجسس التي تراقب جهود شراء الأسلحة في سوريا عن كثب.

إعادة بناء قدرات الأسلحة الكيميائية
وقال المسؤولون إن أولى الغارتين الإسرائيليتين وقعت في 5 آذار (مارس) 2020، واستهدفت فيلا ومجمعاً في أحد الضواحي جنوب شرقي مدينة حمص، التي تبعد حوالي 100 ميل شمال دمشق. ومن الجدير بالذكر أن حمص، التي تُعدّ ثالث أكبر مدينة في سوريا، كانت في السابق مركزاً لإنتاج الأسلحة الكيميائية في سوريا.

وقال مسؤولان استخباراتيان غربيان إن الضربة على الفيلا مرتبطة مباشرة بنجاح سوريا في العام السابق بشراء كمية كبيرة من فوسفات ثلاثي الكالسيوم، حيث تحتوي المادة الكيميائية، المعروفة باختصارها بالأحرف الانكليزية باسم (TCP)، على العديد من الاستخدامات غير العسكرية، بما في ذلك في المضافات الغذائية. إلا أنه يمكن تحويلها بسهولة إلى ثلاثي كلوريد الفوسفور، وهو مركب شديد التنظيم يُحظر استيراده إلى سوريا بسبب استخدامه المعروف في صناعة غاز السارين وغازات الأعصاب الأخرى.

كما قال المسؤولون إن المتلقي النهائي لبرنامج التعاون الفني كانت وحدة عسكرية سورية تُعرف باسم الفرع 450، مركز الدراسات والبحوث العلمية، وهو فرقة من كبار العاملين في الجيش السوري. أشرف المركز على إنتاج الأسلحة الكيميائية السورية من الثمانينيات حتى عام 2014 على الأقل، عندما تم تفكيك البرنامج رسميا بموجب اتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة وروسيا.

وافاد المسؤولان الغربيان إن عمليات التجسس الاستخباراتية في الأشهر التي أعقبت هجوم آذار 2020 أدت إلى اكتشاف مواقع إضافية، وكشفت ما يعتقد الإسرائيليون أنها جهود مستمرة لإعادة بناء قدرات الأسلحة الكيميائية السورية.
وقال أحد المسؤولين: "كان هناك المزيد من المؤشرات على عودتهم إلى الإنتاج".

واستهدفت غارة 8 حزيران (يونيو) مخازن عسكرية قرب الناصرية، وهي قرية صحراوية شمالي دمشق، وموقعين إضافيين بالقرب من حمص. وقد وُصف أحد هذين الموقعين بأنه مرفق مساعد للمختبر العسكري التابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية في مصياف، التي تبعد حوالي 40 ميلاً شمال غرب حمص.

وذكرت تقارير إخبارية سورية وقوع سبع ضحايا عسكريين في تلك الضربة، بمن فيهم عقيد سوري -تمت ترقيته بعد وفاته لرتبة عميد- عُرف باسم "الشهيد البطل" أيهم إسماعيل. وقيل إن الضابط القتيل مهندس عسكري تم تعيينه في مجمع مصياف.

ليس من الواضح ما إذا كانت الهجمات قد نجحت بالكامل في تعطيل خطط سوريا. وقال المسؤولان الاستخباراتيان الغربيان إن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يعتزمون أن تكون الضربات استباقية،  بحيث تقضي على قدرات الإنتاج في البلاد قبل تصنيع الأسلحة الفعلية. إذ إن أي محاولة لتفجير مخزون موجود من غازات الأعصاب من شأنها المخاطرة بإطلاق أعمدة من الغازات القاتلة التي يمكن أن تنتشر إلى البلدات والقرى المجاورة.

وقال مسؤولون حاليون وسابقون إن كبار المسؤولين في إدارتي ترامب وبايدن  علموا بالهجمات والمعلومات الاستخباراتية الأساسية بعد وقت قصير من الضربات.
ولطالما اشتبه مسؤولو الاستخبارات الأميركية في أن سوريا تحتفظ بالجوانب الرئيسية لقدراتها في مجال الأسلحة الكيميائية، إن لم تكن تعيد بناءها فعلاً. وقد اتّهم مسؤولون في وزارة الخارجية سوريا علنا في عام 2019 بمواصلة برنامج الأسلحة الكيميائية سراً، مستشهدين على وجه الخصوص بهجوم بغاز الكلور ضد مقاتلي المعارضة في ذلك العام.

وتقترب إدارة بايدن من إنجاز مراجعة شاملة للسياسة تجاه سوريا، ومن المتوقع أن تدعو إلى معاقبة الأسد على الانتهاكات السابقة والحالية لالتزامات بلاده بموجب معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية.

وقال السفير جيمس جيفري، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم الذي أشرف على الدبلوماسية مع سوريا خلال العامين الأخيرين من إدارة ترامب: "لقد ذكرت الإدارة أنها ستحاسب الأسد على أفعاله. يجب أن يشمل هذا بالتأكيد الأدلة التي قدمها [وزير الخارجية آنذاك مايك] بومبيو وآخرون ... بأن الأسد يحاول إعادة بناء ترسانة أسلحته الكيميائية."

وسبق أن اتهمت جماعات حقوق الإنسان ومحققون مستقلون نظام الأسد بالاحتفاظ بقدرات خفية على الأقل لمهاجمة المدنيين بالغازات السامة.

وقال ستيف كوستاس، محامي مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح، وهي منظمة غير ربحية تسعى إلى مقاضاة لمرتكبي جرائم الحرب الكيميائية "لا يزال لدى سوريا مخزون من الأسلحة الكيميائية، ومازالت تحتفظ بالقدرة على إنتاج هذه الأسلحة اليوم، ولديها القدرة على شن هجمات بأسلحة كيميائية ضد المدنيين". واستشهد كوستاس بـ "القدرة الإنتاجية غير المعلنة لسوريا" وجهودها المتكررة لعرقلة بعثات تقصي الحقائق من طرف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وهي هيئة رقابية دولية مقرها لاهاي تحقق في الهجمات الكيميائية.

عندما اندلعت الحرب الأهلية السورية في عام 2011، كانت دمشق تمتلك واحداً من أكبر مخزونات الأسلحة الكيميائية وأكثرها تقدماً في العالم، بما في ذلك مئات الأطنان من السارين الثنائي وغاز الأعصاب، وهما من أكثر عوامل الحرب الكيميائية فتكاً على الإطلاق.

وقد عدّلت الحكومة السورية ترسانتها الكيميائية لاستخدامها في الهجمات ضد المتمردين المناهضين للأسد، فصدمت العالم في آب (أغسطس) 2013 بهجوم ضخم بغاز السارين أسفر عن مقتل نحو 1400 مدني، معظمهم من النساء والأطفال في إحدى ضواحي دمشق. وبعد تهديد الرئيس باراك أوباما بشن ضربة عسكرية، وافق الأسد على التخلي عن الأسلحة الكيميائية والسماح للمفتشين الدوليين بالإشراف على تدمير مخزون أسلحته بالكامل، إلى جانب جميع مراكز الإنتاج ومعدات التصنيع.

وفي عملية دولية غير مسبوقة، سُحب حوالي 1300 طن من المركّبات الكيميائية من سوريا لتدميرها في محارق على متن سفينة أميركية مُعدّة خصيصاً لهذا الغرض في البحر المتوسط.

ومع ذلك، استمر الأسد في استخدام الأسلحة الكيميائية في أكثر من 200 هجوم ضد معاقل المتمردين، لا سيما غاز الكلور الكيميائي الصناعي، وهو بديل خام لغازات الأعصاب الفتاكة. واستمرت الهجمات على الرغم من تحذيرات إدارة أوباما وعلى الرغم من الغارتين الجويتين على منشآت عسكرية سورية بأمر من الرئيس دونالد ترامب.

وخلص مسؤولو الاستخبارات الأميركية في وقت لاحق إلى أن الأسد احتفظ أيضاً بجزء صغير من مخزونه من غاز السارين واستخدم بعضاً منه في مناسبتين على الأقل بعد عام 2017. ومنذ عام 2018، كانت هناك تقارير عديدة حول جهود سوريّة مزعومة لتصنيع أسلحة كيميائية جديدة، لكن دون دليل على ذلك.

ويلاحظ خبراء الأسلحة أن المزاعم حول البرامج البيولوجية والكيميائية السرية غالباً ما تكون غير دقيقة، على غرار ما اكتشفته وكالات الاستخبارات الأميركية بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. لكن غريغ كوبلنتز، الأستاذ المشارك والخبير في الدفاع البيولوجي في كلية شار للسياسة والحكومة بجامعة جورج ميسون، لا يعتبر جهود سوريا للحصول على مركّب ثلاثي الكلوروبروبان ، الذي له استخدام مزدوج، دليلاً يدينها في حد ذاتها. 

وقال كوبلنتز: "إن شراء سوريا لهذه المادة الكيميائية، حتى من خلال قنوات السوق السوداء، ليس مؤشراً على غرض شرير". وقال إنه في حالة سوريا، يبدو أن المزاعم تكتسب مصداقية أكثر بسبب السجل المؤكد لنظام الأسد في الغش في التزاماته بموجب المعاهدة.

وأضاف كوبلنتز "إن سوريا تُخفي المكونات الرئيسية لبرنامج أسلحتها الكيميائية منذ أن وقعت اتفاقية الأسلحة الكيميائية في 2013".
ولفت الى أنه ربما كان الأسد قد قرر في البداية الاحتفاظ بأفضل أسلحته كنوع من بوليصة التأمين ضد انهيار النظام. ولكن الآن بعد أن استعادت سوريا السيطرة على معظم أراضيها فإنه "من المنطقي أن يرغب نظام الأسد في إعادة بناء برنامج الأسلحة الكيميائية ليُستخدم مرة أخرى كرادع استراتيجي ضد عدوه القديم إسرائيل".

"الواشنطن بوست"

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o