Sep 10, 2021 11:04 AM
خاص

لطيفة اللقيس ذكرى وذاكرة...العرض الاخير في صناعة الثقافة والفرح

المركزية - لطيفة اللقيس. اسم سيضيفه الللبنانيون عموما والجبيليون خصوصا، إلى لائحة طويلة من النساء اللواتي لم يكن مرورهن في الحياة العامة مجرد مشوار عادي. لأنهن ايقنّ ما قد يكون غائبا عن بال كثيرين: إن الحياة محطات لصناعة الخير والفرح والسعادة..

لطيفة اللقيس، إلى جانب (على سبيل المثال لا الحصر) نهاد سعيد، النائب، والمرأة الحديدية في الميدان النيابي، وماري الشامي، المفتاح الانتخابي الأهم لعميد الكتلة الوطنية ريمون إده في عرينه السياسي الأول، تركت هي الأخرى بصمتها في مدينة الحرف. كيف لا وقد اقترن اسمها على مدى عقدين من الزمن تقريبا بمهرجانات جبيل الدولية، فكانت الشريك الند والمنافسة الأبرز لسيدات صرن هن أيضا مرادفا للبنان الثقافة والفن والفرح والجمال، كرئيسة لجنة مهرجانات بيت الدين الدولية نورا جنبلاط، وبطلة مهرجانات بعلبك الدولية على مدى عقود مي عريضة.  

اليوم، ودّعت لطيفة اللقيس جمهور المهرجانات الوفي، بعد عرض أخير لعبت فيه دور البطولة في مواجهة مرض عضال، قاومته حتى النفس الأخير. لكن قدرها كان أقوى... وقد غلبها الموت في ختام معركة شرسة.

على أن الأهم يكمن في أن الغياب في حضرة أناس مثل لطيفة اللقيس ليس إلا مجرد انتقال إلى دنيا الراحة الأبدية، واستحضارا واستذكارا دائمين. ذلك أن أولئك الذين يكتشفون ويقتنعون بأن الحياة مشوار فرح، ويقتنصون الفرص لإثبات ذلك يحفرون لأنفسهم مكانا لا يبتعله بحر مرور الزمن.

ولا أحد يشك في أن من حق لطيفة اللقيس على جبيل أن تتذكرها دوما على أنها كانت المرأة التي حوّلتها من مدينة تنام باكرا مع شمس المغيب في بحرها الأزرق إلى مدينة لا تعرف النوم... مدينة تنضح فرحا ورقصا وموسيقى وغناء بفضل مهرجان سنوي صار موعدا ثابتا في الرزنامة الثقافية اللبنانية، إلى أن تحول مهرجانا دوليا. وهنا يبقى إرث لطيفة- وهي اسم على مسمى- اللقيس، حيث أن مهرجان جبيل تحول في عهدها على رأس اللجنة المنظّمة (اعتبارا من العام 2003) مهرجانا دوليا بكل المعايير المعتمدة عالميا.

ولا بد في هذا السياق من الاشارة إلى أن اللجنة المذكورة كانت تضم كثيرا من أبناء المنطقة البارزين والناجحين واللامعين في مختلف الميادين . حتى أن وجوها كبيرة تولت مركز الرئاسة عندما كانت لطيفة اللقيس لا تزال تشغل وظيفة في الأمانة العامة للجامعة اللبنانية. ومن أهم رؤساء اللجنة العملاق روميو لحود الذي شهدت ولايته عروضا محلية مهمة شاركت فيها بطبيعة الحال فنانته "المدللة" فراشة المسرح اللبناني الراحلة سلوى القطريب.

ومع وصول لطيفة اللقيس إلى المركز الرئاسي الفني الأول في المدينة، اتخذت مهرجانات بيبلوس الدولية طابعا جديدا، متجددا، رافعا تحدي الجمع بين الزمن الجميل بعبق الماضي وأصالته وضرورة ركوب موجة التطور ومماشاة الجيل الجديد، وهو الجمهور الجديد بطبيعة الحال، وتبعا لسنة الحياة. فكان أن حضر إلى مسرح المهرجان الدولي أهم نجوم العالم من الجيلين القديم والجديد، فابتسم الحظ لجمهور عريض من كل الفئات العمرية، تمايل في جوار ميناء جبيل التاريخي القديم على أنغام الموسيقى الرحبانية في ليال صيفية كانت محطة شبه ثابتة في رزنامة المهرجان السنوية. بدليل أن القيمين على الارث الرحباني اختاروا جبيل دون سواها ليقدموا عملا يستذكر إرث نصري شمس الدين وفيلمون وهبي- الرقمان الثابتان مع الاسطورة فيروز في السجل الرحباني- ويعيدوا تقديم مسرحية صيف 840، مع سيف البحر غسان صليبا (الذي بات هو أيضا حاضرا دائما في الأجندة الرحبانية) وهبة طوجي الفنانة الصاعدة عام 2009. كذلك قدم الرحابنة في المهرجان نفسه مسرحية زنوبيا مع غسان صليبا والفنانة كارول سماحة، قبل أن يحطوا الرحال في كازينو لبنان، في جونية جارة جبيل، ولؤلؤة المتوسط. على أن الرحابنة لم يتفردوا في الوقوف العملاق على مسرح كبير بحجم ذاك الذي يفتح أبوابه سنويا في جبيل. كيف لا ولطيفة اللقيس حجزت للعملاق الكبير وديع الصافي أمسية تكريمية في دورة عام 2010، حضرها رئيس الجمهورية آنذاك العماد ميشال سليمان شخصيا، شاهدا على أصالة الفن اللبناني تتأرجح على أوتار أصوات وائل كفوري ونجوى كرم. كذلك نجحت لطيفة اللقيس في استقطاب أهم النجوم العرب إلى مسرح جبيل لإرضاء جمهور توّاق إلى الفن الأصيل. ومن بين هؤلاء يسطع بالتأكيد نجم قيصر الغناء العربي كاظم الساهر، المعروف بوفائه لمهرجانات بيت الدين الدولية حيث الموعد الثابت.

ولأن الموسيقى لغة لا تعترف بالجغرافيا وبلا بحدود الزمان والمكان، كسبت لطيفة اللقيس رهان تحويل مدينتها الأم، حيث منبع الحروف واللغات والثقافات إلى منصة يطل عبرها أهم نجوم العالم، أبرزهم العملاقة الفرنسية ميراي ماتيو، صاحبة أغاني الحب الخالدة، والتي عادت إلى جبيل عام 2015، بعد 40 عاما على حفلة كانت أحيتها في المكان عينه. ولجيل الشباب وهواة الموسيقى ذات الايقاع الشبابي حصة حرصت عليها اللقيس وفريق عملها إلى حد... جعل لبنان وقفة ضرورية لقطار الفن. بدليل أن الفرقة الموسيقية العالمية SCORPIONS   على سبيل المثال لا الحصرـ خصت لبنان، عن طريق جبيل، بحفلتين في إطار الجولة العالمية التي ختموا بها مشوارهم الفني. وعلى مسرح جبيل أيضا، عزف الموسيقي العالمي ياني أهم ألحانه وأفضل انتاجاته الموسيقبة، بينما استعاد الجمهور اللبناني من محبي الفن السابع مشاهد من الفيلم العالمي GREESE  في دورة عام 2009. ولا ينسى أبناء التسعينيات ممن كانوا شهودا على انطلاق ظاهرة برامج تلفزيون الواقع أن جبيل شكلت المسرح الأول الذي أطل منه طلاب برنامج اكتشاف المواهب "ستار أكاديمي" في موسمه الأول على جمهورهم الذي أحبهم من وراء الشاشة ورافق تفاصيل حياتهم اليومية ...

هذا غيض من فيض نجاحات كبيرة سجلتها لطيفة اللقيس في مرمى المراهنين على أن بلادا تلازمها الأزمات السياسية والاقتصادية تجعل شعبها يغرق في اليأس ويبتعد عن كل مصادر الفرح. لكنها كسبت هذا الرهان لأنها  اكتشفت أن الورقة الرابحة اللبنانية ليست إلا حب الحياة والاستمتاع بها وبلحظاتها وتفاصيلها الصغيرة، مع العلم أن هذه البلاد ذات الحظ العاثر لا توفر كل أسباب النجاح في هذا المجال. ويروى في هذا الاطار أن في عام 2007 وفيما كانت المعارك بين الجيش وفتح الإسلام دائرة بضراوة في مخيم نهر البارد، التقت اللقيس قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان ابن عمشيت البلدة الجبيلية، مدفوعة بخوفها من الوضع الأمني اللاهب الذي كان ليطيح المهرجان. إلا أن سليمان طمأنها وحرص على تأمين أمن الجمهور، وهو كان حريصا على الحضور شخصيا في بعض الأحيان لإعطاء نفحة من الاطمئنان...

هذه هي لطيفة اللقيس، السيدة الصامتة كثيرا والمتكلمة قليلا... الـ "لطيفة" التي تتقن الاستمتاع بالنجاح وطعمه في الظل... حيث المتعة المنزّهة عن ضوضاء الأضواء. وها هي اليوم تسدل الستارة على العرض الأخير... متيقنة من أن الذكرى والذاكرة لن يخذلاها... 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o