Aug 16, 2021 10:39 AM
مقالات

خُطبَةُ البطريرك أبعدُ من أحداث ممكن تجاوزها

كتب رفيق ابي يونس في صحيفة "النهار":  كان يُمكن احتسابَ موقف البطريرك الرّاعي الاخير، تعليقًا على إطلاقِ صواريخِ حزب الله من الجنوب، وعلى مواقِفِ مُشابهة، ساقَها طيلَةَ العام المُنصرم، في سياق الاعتبارات التقليديَّة للبطريركيَّة المارونيَّة، والمُتَّصلة بخياراتِ لبنان الوطنيَّة العامَّة، حِفاظًا على الكيانِ والدَّولة والتوازنِ الوطني.
 
وكان يُمكنُ فهمَ هذا الموقفُ على أنَّه تعبيرٌ عن التحفُّظ المسيحيّ المألوف، إبَّان الازماتِ الكبرى المفتوحة، على إعادة النظر بموقع لبنان ودوره عربيًّا واقليميًّا ودوليًّا. وإنَّ السقفَ المرتفعَ في خطبَةِ البطريرك الأخيرةِ والتحديدات التي كثيرًا ما كانت تبتعدُ عنها مواقف الكنيسة المارونية، بل مختلف الكنائس المسيحية، لا تُشكِّل جميعها، سببًا للانفعال وردود الفعل والتعبئة المُركَّزة ضد البطريرك.

انَّ مثلَ هذه التعبئة التي دُبِّرَ الجزءُ الاكبرُ منها، بعد بحثٍ مستفيضٍ في الدوائر المُغلقة، وتحوَّلت الى نفيرٍ لدى مواقع التواصل، تبيَّنَ أن بعض رُوَّادها هم من عداد الكوادرِ عند حزب الله، يُعبِّرون عن مواقف توجيهيَّة، فيما الاغلبية هي من القاعدة الاوسع التي تلتقط هذا التوجيه. كلُّ ذلك، لم ينفِ الحاجةَ، الى بعضِ المواقفِ التي تصدرُ عن مراجعَ في المجلسِ الاسلاميِّ الشيعيِّ الاعلى، لِتَعطفَ إيحاءاً، موقفَ نبيه بري على مواقف حزب الله، خلافًا لرغبة رئيس المجلس النيابيّ. ويمكن ملاحظَةَ ذلك بوضوحٍ اكثرَ، من الجاهزيَّة والحضورِ الفوري على الشاشاتِ، لعددٍ من الاعلاميين المُتفرِّغين لمواكبة حزب الله، والذين غالبًا ما يبدؤون اطلالاِتهم المُنسَّقةِ وِفقَ نغمةِ غَدَت مفهومة: نحن لسنا حزبيين!
 
عندما تدخلُ الحملَةَ على البطريرك، ضمنَ البرنامجِ المَركزيِّ لاطرافِ المُمانعةِ، بقيادة حزبِ الله، يُصبح السؤالَ، هل الذي يتضمنُّه المشهدُ العامَ من هذه الزاوية، هو مجرَّدُ سجالٌ يُفتحُ ويُقفلُ، ويبقى متصلًا فقط بموضوع الحدث الذي اقتضاه؟ أم انَّه يأتي في لحظةِ تحوُّلٍ عميقٍ، يُسقِط الابتهاجَ بِنَطريّة " كَيّ الوعي"، وصولا الى استعادة الوطنيَّة اللبنانيَّة عناصرَ قوَّتَها ورسوخَها في الوجدان اللبنانيّ، بعد انكشافِ كلُّ ما يخالفُها من دعواتٍ وافكارٍ، وتَسيُّبٍ في الثقافَةِ السياسيَّة والوعي الوطني!
 
هل إنْ الانكارَ والاصرارَ لدى البعض، على أنَّ لبنانَ، يُمكن ان يكونَ بلدًا لاهله، في الوقتِ الذي يُمسكُ بقراره في الجنوب سلاحٌ غيرُ شرعيِّ وفي الداخِلِ امرُ واقعٍ يقودُه هذا السلاح؟ وهل إنَّ تلوينَةَ المَشاربَ المختلفةَ دفاعًا عن هذا السِّلاح، ما زالت قادرةً على التغطيةِ على انَّه شرعيٌّ وغير مذهبيّ، وغيرَ مُرتبطٍ بما يُخالف المصالح اللبنانية العليا؟
 
اذا كانت بعضُ الاطرافِ الدَّاخليَّة قد استهواها التحالفَ مع حزب الله، طريقًا وحيدًا للامساك بالسُّلطة، فهل هي قادرةٌ بحالةِ تجميعِ القرار بيَدِ حليفها، على حمايةِ الدولة من السقوطِ في الداخل والخارج؟
 
لقد تقدَّمتِ البطريركيَّة المارونيَّة على كلِّ الذين كان من المفروضِ أن يَعْنيَهم الامر، حيثُ تخلَّفَ المُطالَبون بمراجعة خياراتِهم، كما هدأ وترصَّن كلُّ مَن اعتبر ان الازمَةَ مُستعصيةٌ، لا يَنهضُ بها الا الخارج، حربًا او سلمًا. في حالة حزب الله والتيار الوطني الحر، كبُرَ مازقُ قيامِ الدولة وزادت صعوبةُ استمرار التحالف. كان على حزب الله ان يُدركَ، ان تعطيلَ الحياةَ الدستوريَّة لفرضِ حليفِهِ رئيساً للجمهوريَّة، هو مغرٍ للتحالف، وان لم يَكن رؤيويًا، سيَّما عندما جاء تتويجًا للتوغل في الدولة والابقاء على السلاح. والتيار الوطني لم يقرأ الفارق الكبير بين القُربِ والبُعدِ من السلاح غير الشرعي، وبين الدفاع عنه في الامم المُتَّحدة بشخصِ رئيسِ الدولةِ، وفي الجامعة العربيَّة بصوت وزير الخارجيَّة.
 
لم يكن للكلامِ البطريركيّ التاثيرَ الذي بلغه، لو لم يكن هذا التحالف موضوعيًّا، قد وصَلَ الى طريقِ الاستحالة، بين مشروعِ الدولةِ وبين السِّلاحِ المقاوم، استحالةٌ لم تكن ساطعة قبل شراكة حزب الله في الحكومة، وقبل ان تبلغَ قدرته، حدودَ انتاجِ الحكوماتِ والرئاساتِ الثلاثِ والاهم رئاسة الجمهورية. الدرايَةُ لم تعد كافيةً من خلال الاشارةِ الى الصوارخِ اللقيطةِ في الجنوب، ولا من خلال الافتراقِ في المجلس النيابي حول الحصانات.
 
لقد اعتقدَ كثيرون عندما امتزجَ بريقُ العماد عون بِبَريقِ السيد حسن نصرالله، ان الموارنةَ في جبل لبنان، غدا يطيبُ وهم يستمعون الى زعيم المقاومة كأنَّهم يستمعون الى كميل شمعون، وان الشيعة في جبل عامل تستهويهم خُطب الرابيةِ بقدر مثابراتهم على التقاط توجيهات الضاحية. ولم يدرك الطرفان، أنَّه إذا كان التحالفَ من خارج النظامِ ممكنًا ومصدرَ قوةٍ، فهو من داخل الدولة يُحتِّم فشلَ رئيس الجمهورية في حماية الدولة او يفرض على السيد حسن تدبيرَ امر السلاح.
 
ليس قليلًا، في سياق افتضاح هذا الإلتزام المتبادل، ان يتعاطى رئيس الجمهورية الماروني وتياره الاقوى عند المسيحيين، حتى اشعار الانتخابات المقبلة، مع مباردة رئيس فرنسا رافعةَ لبنان الكبير، ودور المسيحيين فيه كما رغَبَ اليه زعيم المقاومَة المُسلَّحة التي ترسم سياستيْ لبنان، الدفاعية والخارجية.
 
لقد ساد اعتقادٌ متعجلٌ ان رحلة الوعي المسيحيِّ، التي تناقضُ هذا الكيان، مهما عَظُمَت الاهدافِ البديلة، هي رحلةُ ذهابٍ بلا عودةٍ، ولو صحَّ هذا، كان يعني شيئا وحيدًا، انَّ الدورَ الذي اطَّلع به المسيحيُّون، ولم يغفل اهميتَّه سائر اللبنانيين والعرب، كان قد اصبح سرديَّةٌ تاريخيَّة ليس الا. لقد صبَر البطريرك صفير رحمه الله، على الضَّيْمِ اللبنانيِّ منذ انتختبات 1992 حتى عام 2000، متضامنًا خلال تلك الفتيرةِ، في معركة تحرير الجنوبِ، حيث كانت معركة كل اللبنانيين وكل العرب. وحيث كانت المقاومة بغنىً عن تحالفاتٍ فئوية. تبيَّنَ لغبطته بعد التحرير، انَّ طغيانَ السياساتِ الاقليميَّة، يدفعُ بهذا الانجازِ التاريخيِّ لسدِّ الافقِ امام عودة لبنانَ الى اهله، مسيحييِّنَ ومسلمين. ولم يُوقفه احتسابَ ميزانِ القوى عن قيادة معركة استقلال لبنان.
 
تعايشَت البطريركيَّة المارونيَّة في عهدِها الراهن، عهدَ البطريرك الرَّاعي، من مدخل الحرص على الاستقرار، طيلة العقد المنصرم، مع العطب البنيوي المانع لقيام الدولة. التبس الموقف المسيحي في الخارج والداخل، وشكل اضافة لانسداد الافق. وجدت  البطريركية المارونية نفسها في صلب المبادرة لاستعادة الرسملة المسيحية والوطنية من داخل هذا العطب.
 
موقف البطريرك الراعي ليس عابرا ولا يتصل بحدث ممكن تجاوزه. انه واحدٌ من الاجوبة الكبرى عن اسئلة كثيرة في لحظة التحول. لهذا تتواصل التعبئة الفئوية ضده، وتحتضن موقفه المساحة الوطنية اللبنانية الاوسع.

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o