Nov 04, 2019 3:26 PM
خاص

ميشال إده... القامة والهامة بحجم وطن...

المركزية- كثيرة هي الأسماء العابرة في التاريخ السياسي لوطن يتقلب على نيران التغيّرات الصغيرة والكبيرة في محيطه. لكن هذه ليست حال كل الأسماء. فبعض منها لا ينتظر مرور الزمن حتى تدق ساعة كتابة التاريخ،، عله يذكرها... بعضها يصنع التاريخ ويدفعه إلى التوقف عنده والاضاءة عليه. لكن الأهم يكمن في أن "هذا البعض" من المساهمين في كتابة التاريخ يحترفون الخير ويتقنون فن التواضع والابتسامة  والعمل في الظل، كما في الضوء، لا من أجل طموح سياسي شخصي ولا لتحقيق غايات، بل لأجل صالح عام يستحق النضال في سبيله.

هكذا هو الوزير السابق ميشال إده، الذي أمس، لتطوى بذلك صفحة خطها أحد كبار هذا الوطن بأنامل من ذهب حفرته إرادة صلبة وتفان مشهود في خدمة الله والوطن على أكمل وجه. لكن قبل أن تطوى هذه الصفحة المضيئة بواحد من أهم رجالات القرن العشرين في نسخته اللبنانية، سيدون عليها كل من عرف ميشال إده أو تسنت له فرصة العمل معه أنه كان واحدا من أنبل رجالات الميدان السياسي، وقامة استثنائية سيمضي لبنان عمره يبحث عن أمثالها في مواجهة زمن ما انفك يصفع وطن الأرز بضربات سود جعلته يتيم الهامات الوطنية من طينة إده، ونسيبه عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، رجل السياسة الاستثنائي هو الآخر، والرئيس الراحل الياس سركيس، صديق الوزير السابق منذ أن التقيا على مقاعد الدراسة في كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف، قبل أن يجمعهما القدر مجددا، عن طريق مصرف لبنان الذي شغل سركيس حاكميته فيما كان إده محاميه.

ولكن الله لا يترك أوطانه ومؤمنيه من دون عزاء يبلسم جراح غياب هذا النوع من الناس من أصحاب البصمات المضيئة. ذلك أنه لم يشأ لإده مسارا عاديا. بدليل أن إده حجز لنفسه، وربما من حيث لا يدري، مكانا في ذاكرة جيل الحرب اللبنانية وما بعدها، وإن توحيد الذاكرة هذه مهمة لا تزال ترقى إلى مصاف المستحيلات. كيف لا وميشال إده حمل بجدارة لقب "وزير الثقافة" للمرة الأولى في تاريخ لبنان الخارج لتوه من أتون الحرب الأهلية، التي دمرت بلادا وشلّعت شعبا ويتّمت زوجات وأطفالاً ذنبهم أنهم ولدوا لآباء أحبوا الوطن حتى الاستشهاد، برصاص الاقتتال الطائفي البغيض الذي لم يسلم من ناره ودماره لا الحجر ولا البشر. أمام هول الدمار الذي لم يكن إلا الصورة الحية لضراوة المعارك بين الأشقاء اللبنانيين، استشعر ميشال إده، المعروف بشغفه بالتاريخ والحضارات، أهمية خوض معركة الحفاظ على المباني الأثرية والتراثية في وسط بيروت التاريخي، في موازاة ورشة إعادة الاعمار التي أطلقها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، من خلال شركته "سوليدير". فكان أن نجح إده بالتعاون مع المديرية العامة للآثار وفريق من الخبراء، وبمساندة إعلامية مشهودة، والمؤسسة الوطنية للتراث (التي شغل منصب نائب الرئيس فيها لفترة من الزمن متعاونا مع السيدة منى الهراوي) في الحفاظ على عدد من المباني التاريخية والأثرية في العاصمة العائدة شيئا فشيئا إلى حياة حرمت منها لصالح الآخرين وحروبهم العبثية على أرض لبنان. لكن، من الظلم بمكان اختصار إرث إده الوزاري بكونه وزيرا للثقافة. ذلك أن العارفين بالشؤون والشجون اللبنانية يتذكرونه وزيرا للاتصالات في ستينيات القرن الماضي، ووزيرا للإعلام في عهد صديقه الياس سركيس ووزير دولة في واحدة من الحكومات الحريرية التي أبصرت النور عام 1996. وقلة قليلة أيضا تعرف أن ميشال إده، ذي الكرم الذي لا يحتمل جدالا ولا يحتاج تفسيرا، رفض مرارا الترشح إلى الانتخابات النيابية إلى جانب صديقه رفيق الحريري، كما في خلال الحقبات التي سبقت "الحريرية السياسية" إلى اكتساح الصورة المحلية.

ولتعليل هذا الموقف، تفسير واحد: كان هم ميشال إده، المؤمن حتى العظم بالصيغة اللبنانية القائمة على العيش المشترك، لا التعايش الذي يتغنى به البعض، يتجاوز الكراسي والمناصب والبروتوكولات إلى ما هو أسمى وأكبر  وربما أجدى. الهم كان في مكان آخر: في أن يساهم من موقعه في خدمة وطن لم يبخل عليه أبناؤه يوما بقدراتهم وجهودهم وحياتهم ودمائهم... لمده بجرعات حياة مستحقة بعد طول تضحيات.

غير أن هذا الازدراء النبيل بالمواقع والمناصب لم يمنع إده من ترك أثر كبير له في مشهد سياسي وإعلامي أراد من خلاله الدفاع عن القيمة الأبرز للبنان الذي يحلم به، الحرية. هذه الحرية نفسها التي يكتبها اليوم ثوار 17 تشرين بصرخات حناجرهم وبأجسادهم التي لا تهاب القمع ولا تخشى الترهيب وتتقن فن المواجهة، في مشهد كان بالتأكيد ليرسم على ثغر ميشال إده ابتسامة فخر بشباب لبنان وشاباته الذين كانت له اليد الطولى في تعليم بعضهم، دفعت ميشال إده إلى دخول الميدان الاعلامي إلى جانب عملاق المهنة، وكاتم أسرارها الأول غسان تويني، فرأس مجلس إدارة صحيفة لوريان- لوجور منذ العام 1990 حتى أيامه الأخيرة. على مدى ما يقارب 3 عقود في هذه السدة، راقب الوزير جريدته الفرنكوفونية، وهو الشغوف باللغة الفرنسية، والمعجب بشخصية الرئيس شارل ديغول، فقدم للجمهور اللبناني العريض مادة إعلامية مكتوبة بحبر معارك الحرية والسيادة التي خاضتها الصحيفة إلى جانب الناس عندما ارتأى هؤلاء أن الوقت حان لكسر طوق الوصاية عام 2005، كما ذاك الذي لفه حول رقابهم الفساد والخيارات الحكومية الخاطئة منذ عقود، فكان الانفجار الشعبي الأكبر منذ ثورة الحرية في 14 آذار 2005، والذي لم تتوان الصحيفة الناطقة بالفرنسية عن تكريس صفحاتها ومقالات صحافييها لدعمه.

وإذا كان شغف ميشال إده "الفرنسي" غير خاف على أحد، فإن الأجيال اللبنانية المتعاقبة ستحفظه أيضا كواحد من أهم المراجع السياسية في مجال الصراع العربي الاسرائيلي، والمطلع على خفايا الاستراتيجيات الاسرائيلية الهادفة إلى إبعاد العرب عن فلسطين التي سكبوا ولا يزالون في سبيل نصرة قضيتها المركزية المحقة دماء زكية. وستذكره أيضا علما مارونيا حتى العظم عمل من خلال الرابطة المارونية التي رأسها بين 2003 و2007، والمؤسسة المارونية للانتشار التي يقف وراء تأسيسها على خدمة الموارنة ونضالهم التاريخي وإعطاء المغتربين منهم الجنسية اللبنانية، عله بذلك يعزز انتماءهم إلى وطن الأرز. علما أن ايمانه المسيحي العميق بالله وعمله الخلاصي في الانسان والانسانية، لم يمنعه من حمل لواء الحوار مع الآخر وتقبله لتكريس مفهوم العيش المشترك وتأكيد كون لبنان وطنا رسالة.

وطن الرسالة هذا الذي خدمه ميشال إده بتفان نادر في حزن قاتل، علما أنه احترف هذا النوع من الأقدار الكاتمة. لكن لرحيل إده وهامته نكهة أخرى. إنه أفول قامة لم يبتسم لها القدر الرئاسي يوما. غير أن الهامات في هذا الحجم لا تتوقف عند هذه التفاصيل. فهي لا تحتاج فخامة ولا زعامة لتكون في صدارة الصورة... بعضهم "فخامة أسمائهم تكفي".. يكفيهم فخرا أن الوطن سيمضي عمره يبحث عن أمثالهم، تحت أنظار قديسيه وملائكته.  فالقامات لا تعرف الغياب. كل ما في الأمر أنها تتحول كما ميشال إده ملاكات حارسة تحرس أوطانها بالابتسامة والصلاة...   

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o