الديبلوماسية تتحرّك بالتعويل على برّي
يُدرك لبنان الرسميّ والسّياسيّ، أن إسرائيل تراودها رغبةٌ جامحة بتكرّار ما تفعله بغزّة في لبنان، أكان بالمحنة الإنسانيّة أو "سحق" الحزب وإضعافه بنيويًّا واستراتيجيًّا وشعبيًّا، فضلًا عن تقويض أهليته كـ"قوّة ذات تأثير إقليميّ". ولا يتورع لبنان عن إبداء رغبته المُلّحة في إنهاء هذه الحرب الشرسّة وغير المتوازنة بأسرعٍ وقتٍ ممكن وكيفما اتفق. وفي الوقت الذي تتقلص فيه فسحة التكّهن بمصير حرب إسرائيل الرابعة عليه، وأمدها، فضلًا عن أهدافها الفعليّة، تنطلق المسارات الدبلوماسيّة الإقليميّة والدوليّة للتهدئة وخفض التصعيد بالتوازي، متخبطةً بين هشاشتها وحسابات المحاور والأطراف.
وإن كانت الحركة الدبلوماسيّة المكثّفة في الأمم المتحدّة الأسبوع الماضي، قد نجحت في وضع مدماكٍ مؤسس لمقترح يُعالج التطورات في لبنان، ويوصل لوقف إطلاق النار، عبر المبادرة الأميركيّة- الفرنسيّة المدعومة عربيًا وأوروبيًّا (راجع "المدن"). إلّا أن واقعة اغتيال أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، وبكل ما له من رمزيّةٍ معنويّة وسياسيّة كضربةٍ قاصمة للحزب، جعلت آليات هذه الدبلوماسيّة أكثر هشاشةً، ما دام زمام المبادرة محصورةً بيد إسرائيل المُدلّلة أميركيًّا (حيث تسعى الأخيرة لشراء أكبر قدرٍ من الوقت للسماح بإسرائيل لانتهاز الفرصة) وطالما أن إيران غير راغبة بالانخراط بحربٍ إقليميّة -كما بات واضحًا- حتّى لو على حساب الحزب (من دون أن يعني ذلك رغبتها في خسارته كلاعبٍ سياسيّ في لبنان).
المبادرات الدبلوماسيّة
الإصرار على الحلّ الدبلوماسيّ والدفع نحو هدنة، أتاح لوزير الخارجيّة الفرنسيّ الجديد، جان نويل بارو، زيارة بيروت حاملًا مقترحات عدّة، أهمها إعادة إحياء المسار الدبلوماسيّ الذي تعرضٍ لشلّل بالغ في اليومين الأخيرين، مع الإشارة إلى تنسيق مع الولايات المتحدة الأميركيّة. إذ أن اتصالًا أجري بين بارو ووزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن، ويتزامن ذلك مع مساعٍ فرنسيّة، مصريّة، قطريّة للبحث عن أفقٍ لوقف إطلاق النار ومنع الانفجار الإقليميّ.
وتكتسب زيارة وزير الخارجيّة الفرنسيّ الذي سيلتقي بأبرز المسؤولين اللّلبنانيين، اليوم الإثنين أهمية تنطلق من البحث اللّبنانيّ عن أي مخرجٍ ديبلوماسيّ لتفادي التصعيد الإسرائيليّ المتواصل، وذلك على ثلاثة صُعد أساسيّة:
أوّلًا، تُبرز اهتمامًا فرنسيًّا واضحًا ومحاولة جديّة لدرء سيناريو توغل الحرب إلى العمق اللّبنانيّ، بمعنى أنّها تأتي في ظلّ التهديدات الإسرائيليّة بالغزو البريّ والعمل على إنشاء منطقة عازلة جنوب الليطانيّ، ودفع ترسانة الحزب نحو شماله، واستكمال الهجوم الجويّ على مختلف المساحات اللّبنانيّة لإضعافه وبيئته، وبكل ارتدادات مثل هذه العمليّة على طبيعة الحرب والمواجهات بين الطرفين. وثانيًّا، تشقّ سكّة لخطوط التفاوض وتحديدًا الأميركيّة، حيث يكرر البيت الأبيض، تصريحاته حول رهاناته على الحلّ الدبلوماسيّ. وثالثًا، أن ما تطرحه فرنسا هو حلٌّ سريع، ولا يتضمن في الشكل بنودًا سياسيّة كما هو الحالّ في القرار 1559 بل تُطالب الحكومة بشخص رئيسها نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب نبيه بري بالضغط على الحزب وإقناعه في محنته الحالية بالالتزام بتطبيق القرار 1701.
تتضارب المعلومات حول مسارات التفاوض، خصوصًا أن بعضها يُشير إلى أن إسرائيل ترفض الدخول في جولةٍ من المفاوضات على حساب خسارة "فرصتها الذهبيّة" والمتمثلة بإلحاق ضرّر بالغ بالحزب وإنهاك قواه. فيما تُشير أخرى، إلى أن فرنسا تُريد إحياء خطّ التفاوض بالشراكة مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع الحراك الدبلوماسيّ المصريّ- القطريّ المُشترك، الذي انطلق مؤخرًا وفق ما تُشير مصادر "المدن" الدبلوماسيّة. مع الإشارة إلى أن وفدًا قطريًّا– تركيًّا قد زار لبنان، الأسبوع الفائت، وعقد لقاءات من أجل خفض التصعيد، إلّا أن إصرار إسرائيل على استئناف عدوانها والتصعيد الذي وصل إلى حدّ اغتيال نصرالله، قد أطاح نسبيًّا بهذه المحاولة.
الرهان على برّي
وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل وبلا هوادة عدوانها الجويّ على لبنان، ملوحة بعدوانٍ برّيّ، لا بد من انتظار قرار حزب الله ومن خلفه إيران حيال الردّ على الاغتيال والتصعيد. فيما يبقى مصير المفاوضات مرتبطاً بجديّة المبادرات وكيفيّة تعاطي لبنان الرسميّ معها، لا سيما أن جهات متعددة في الداخل والخارج تراهن على دور برّي، الذي فُتحت خطوط التواصل معه إيرانيًّا وأميركيًا. لا سيما أن بعض المعلومات تفيد بأن بري وقبل فترة حاول إقناع حزب الله بفصل مسار لبنان عن غزة. وكان قد أبدى تخوفاً من تعميق العمليات الإسرائيلية التي ستصيب الحزب بأذى، بالإنطلاق من مجازرها وهمجيتها ووصولها إلى تهجير "البيئة الحاضنة للحزب" من الجنوب والبقاع والضاحية.
يأتي ذلك بالتزامن مع نقاش وتواصل بين إيران وحزب الله حول الخطوات المقبلة، على الصعيدين العسكريّ أو السّياسيّ وبما يتعلق في إعادة هيكلة الحزب. لا سيما في ظلّ ضغوط داخل إيران حول ضرورة القيام بعمل عسكري لاستعادة التوازن وتعزيز موقعها التفاوضي، وهو ما قد يعني التوافق مع الحزب على تصعيد العمليات العسكريّة، وربما استخدام الصواريخ الدقيقة ربطًا بتفعيل العمل العسكري للجبهات الأخرى في المنطقة. هذا، من دون إغفال تهيّب طهران لمثل هذا الخيار خصوصًا في ظلّ التزام أميركا بدعم إسرائيل والدفاع عنها، والتحذيرات التي أوصلتها واشنطن لطهران.
السباق مع الوقت
إنه السباق مجددًا بين المسارات الديبلوماسيّة والتحركات الدوليّة السّاعية لمنع انفجار حرب إقليمية، وبين التصعيد الإسرائيلي المتسارع والذي يبدو أنه ذاهب إلى مديات متقدّمة جدًا. ما بين الخيارين، تبدو اليوم كل السيناريوهات مطروحة على الطاولة، أكان سيناريو الحرب الشاملة، أو سيناريو الهزيمة الّتي سيدفع لبنان ثمنها. فإن الفرصة الهشة والضئيلة لتعلم الدروس أخيرًا، للبنان وحزب الله، لا تزال متاحة حتّى اللحظة. كل ذلك يبقى بانتظار ما سيقرره حزب الله بعد اختيار أمين عام جديد والإعلان عن المسار الذي سينتهجه.
المصدر - المدن