10:43 AM
مقالات

وهم تهريب تسوية

كتب النائب فادي كرم: لا شك بأنه بعد كل حرب تقع بين أطراف متصارعة، تأتي من بعدها التسويات تبعاً لمجريات المعارك العسكرية والموازين الناتجة عنها. هذا بطبيعة الحال، إلا إذا استطاع أحد الأطراف من إنهاء الطرف الاخر. وقد تأتي التسويات مرحلية وتحضيرية لحروب تليها، عند إنقضاء خدمة وفعالية التسوية المعقودة، لكنها أيضاً قد تكون ذات فعالية طويلة الأمد تُفضي إلى سلام حقيقي بين الأطراف الملتزمة بالتسوية، وإلى علاقات تطبيعية طبيعية وجيدة وتعاونية، واستقرار مُنتج للجميع لا يُعدّله الا حدوث أمر جوهري مؤثّر على موازين القوى وحساباتها أو بروز مشاريع توسّعية عند أحد الاطراف. لكن من النادر حدوث تغيّرات جذرية في زمننا هذا، كون التفاوت بين مُقدرات الدول باتت كبيرة جداً، ولا يمكن تصوّر تعديلات مهمة على موازين القوى.

إن ما يجري في منطقة الشرق الأوسط من مواجهات، لها الطابع الوجودي، ولا يصح التعامل معها وكأنها خلافات حدودية أو مصلحية. فمع دخول العامل الأيديولوجي إلى جوهر المواجهات والأزمات في المنطقة، وقعت شعوب المنطقة ومجتمعاتها في شرك سرديات تاريخية متضاربة، تحمل الكثير من النظريات للحاضر والرؤيا للمستقبل وتتعدى منطق التعايش بين الثقافات والمجموعات والشعوب. بالتالي، باتت المسألة، إمّا الوجود فرضاً، وإمّا الإنهاء قسراً.

هذا بالتمام ما يحدث من حروب بين دولة إسرائيل والأيديولوجيات الدينية والعقائدية في المنطقة، الحاملة للواء رفض وجود دولة إسرائيل، والمكتسبة لقضيّة وجودها المقاوم من طبيعة الحرب المستمرّة معها، مراهنة على انقلاب الموازين مستقبلاً علّها تتمكّن من إزالة هذا الكيان، ومتسلّحةً بالقضية الفلسطينية المُحقّة، ومُتقدّمةً تكتيكياً خطوة خطوة نحو عقد التسويات مع الدول الكبرى ومع إسرائيل أيضاً، كتسويات مرحلية تؤمّن الاستمرارية للقضية بانتظار لحظة الانقضاض على الاخر، وهذه الحقيقة تُخيف بالطبع إدارات الدول الحليفة لإسرائيل، ممّا يمنحها التعاطف والدعم.

إذاً، المعارك والحروب مستمرّة طالما هناك، دولة إسرائيل من جهة، ودول الأيديولوجيات الراديكالية من جهة أخرى، والسياسات المُتّبعة من قبل الإدارات الغربية، ربحاً للوقت ورمياً لهذه المسألة الحسّاسة على لإدارات أخرى، لن تؤتي سلماً واستقراراً في منطقة الشرق الأوسط، وسياسات التطبيع التي تمَّت بين إسرائيل وبين بعض الدول العربية المُقتدرة، تبقى مُهدّدة بشكل دائم بفعل بقاء الجبهات العسكرية المفتوحة. فلا السلام الذي عقد في السبعينيات بين دولة إسرائيل ودول عربية كبرى وأساسية أنتج سلاماً، ولا الترتيبات السرّية التي عقدت بين إسرائيل وأجهزتها السرّية وأجهزة دول الصمود والتصدّي أنتجت هدناً طويلة الأمد، ولا الحروب المضبوطة المعايير أمَّنت حرّاساً حقيقيين لإسرائيل. من هنا، العالم والمنطقة أصبحا بحاجة ماسّة لسلم حقيقي في هذه المنطقة المُتفجّرة بشكل دائم، والمُهدّدة للسلم العالمي، وأول الشروط الأكيدة لتحقيق هذا السلم، إمّا إزالة دولة إسرائيل من الوجود، وإمّا ضرب وإسقاط الدول والأنظمة الداعمة للأيديولوجيات.

التسويات التي تمَّت في منطقة الشرق الأوسط منذ سبعينيات القرن الماضي هي التي أعطت الأنظمة الأيديولوجية القوة للسيطرة على مجتمعاتها، وهي التي مكّنتها من هزم سلطات بلادها وتدعيم نفوذها. كما إن ترتيبات نهج “الواقعية السياسية” أمَّنت الفرص لها، فراهنت هذه المنظمات والأنظمة على حاجة الدول الكبرى لترتيبات أمنية، ولوكلاء محلّيين مستفيدين ومستعدّين لحماية مصالح الدول الكبرى التي تُدرّ عليهم المال والحماية، والأهم من كل ذلك، الدور الإقليمي الذي اكتسبته من تسويات الأمر الواقع تلك. لكن هذه الدول النافذة دولياً تدفع الآن ثمن تلك التسويات، إذ إن المنظمات الأيديولوجية كبرت وكبرَت معها مشاريعها وأحلامها وباتت هي المشكل، ومن هذه المشاريع حالياً، حاجة فرعها اللبناني لنيل جائزة ترضية لبنانية، أي وضع يده على الدولة اللبنانية.

إن المشهد العالمي الحالي بات مختلفاً جداً، حيث دخلت كافة دول العالم الكبرى في أزماتٍ خطيرة نتيجة قرارات دافعة باتجاه المواجهات الكبرى. فروسيا مثلاً عادة لفكرها الإمبراطوري، وأوروبا لانقساماتها التاريخية، والولايات المتحدة ليقظة القيادة العالمية، وأكبر دليل على ذلك، ما حدث أخيراً في الكونغرس الأميركي خلال إلقاء رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو كلمته، إذ ان التفاعل المهرجاني الذي حدث في هذا الصرح المؤثّر جداً في القيادة الأميركية، يحمل الكثير من الرسائل للإدارات الأميركية المتعاقبة، فالتصفيق والحماس الذي شهده هذا الصرح خلال إطلاق نتنياهو لمواقف نارية واستراتيجية، تدلّ بوضوح على الاستعداد لشن الحروب على مصدر الأيديولوجيا في منطقة الشرق، أي طهران، وهذا التصرّف ليس إلا ردة فعل من الطبقة السياسية الأميركية على السياسات التي أوصلت العالم إلى هذا التوازن السلبي. قال نتنياهو أمراً مُعبّراً جداً، “منطق التسويات السابق لم يعد يمرّ”، وصفّق له الكونغرس بحماس.


تتلاقى ساحات التفجير الإقليمية لتستكمل مشروع التدمير المتنوع الأهداف وعمليات القتل والتهجير والتفريغ للمجتمعات العربية، بدءاً ممّا حدث في سوريا منذ العام 2011، إلى ما يحدث يومياً في العراق من فوضى سياسية ومالية واستغلال للسلطة، ومؤخراً باندلاع الحرب الداخلية الهمجية في السودان، وأخيراً بحرب غزة و”الحزب” مع إسرائيل. كما تلاقيها وتتعارض وتتناسق معها أيضاً، مشاريع الخطوط الاقتصادية، والمشاريع التوسّعية الإيرانية، وربما لاحقاً التركية، وتتكامل مع استعار المواجهات الداخلية في جميع الدول، خصوصاً في لبنان حيث تندرج المعركة الداخلية ضمن المواجهة الوجودية إذ يستحيل التعايش بين مشروع السيادة الوطنية وبناء دولة المؤسسات والجمهورية القوية مع مشروع محور الممانعة المُدمِّر للمفاهيم الحضارية.

تلتقي كل هذه الحسابات والتناقضات على أرض واحدة وتتحارب بأجساد شعوب المنطقة. فدولة إسرائيل بحاجة للتطبيع المُستدام، وإيران بحاجة لاستدامة شعاراتها الأيديولوجية، والدول الكبرى بحاجة لخطوط اقتصاد واستقرار، والشعوب العربية بحاجة لأمان ودول حقيقية، والشعب اللبناني بحاجة لشرعية وقانون وحياد. فليُدرك المهرولين في لبنان اليوم للالتحاق بمحور المُمانعة بنيّة نيل بعض الحصص في سلطة التحالف بين الفساد واللاشرعية، بأنه لا تمرير لتسوية، لأن من عمل على هكذا تهريبات في السابق، يسعى للحسم حالياً.

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o