Jan 19, 2024 7:32 AM
صحف

كنعان: الموازنة بصيغتها الحكومية كناية عن اعتمادات عشوائية

لم تبرد بعد الحماوة التشريعية على جبهة لجنة المال والموازنة من جهة، والحكومة من جهة أخرى، على خلفية مشروع موازنة 2024. ليس الأمر للعارف والمدرك لخفايا وخلفيات السجال، صراعاً في مجمله على الأرقام والإيرادات والعجز والضرائب والرسوم وخلافه، بقدر ما هو اختلاف في الرؤية حول جوهر وجود موازنة للدولة، ودورها ووظيفتها وعلة وجودها وما يبتغيه منها أهل الحكم والمشرّعون على حد سواء، من أهداف تنموية ومالية واقتصادية، وتوازن فعلي لا ورقي في بندي الواردات والإنفاق لحماية الاستقرار الاجتماعي وانتظام المالية العامة، إذ إن فلسفة الحكم في الرعاية الاجتماعية وزيادة معدلات النمو، لا فذلكة الأرقام والأعداد، هي المبتغى الضروري والمطلوب بإلحاح تبنّيه.

الناس قاب قوسين من العوز، فكيف نزيد عليهم الأعباء، والنشاط الاقتصادي عالق على شفير هاوية توسّع حرب غزة إلى الجنوب اللبناني من جانب، وتزايد الاضطراب والرسائل المتبادلة بالحديد والنار في المنطقة من جانب آخر، والخوف هو من شمولها الإقليم كله.

نزلت الموازنة إلى ساحة النجمة مزوّدة بالرسوم والضرائب، منها الجديد والمبتكر، ومنها المعدّل، ومنها المستورد كضريبة جثث الموتى في الاغتراب، وهطلت أرقام الإيرادات والإنفاق على نواب المال والموازنة واللجان، كأن لا أحد رأى أو شاهد ما حصل في البلاد، وما يحصل حالياً في الاقتصاد، وكأن لا ليرة تكاد تخرج من الخدمة ولا مداخيل الناس وودائعهم تبخرت.
عيوب بالجملة اعترت مشروع موازنة 2024، وثقافة "فوضى الإنفاق" التي "كسرت" ميزانيات الدولة وهدّت حيل الليرة والمصارف، لا تزال على قيد الحياة فيها، وتتربّع في غالبية بنود الإنفاق، وكذلك الإصرار الغريب على الاستدانة دون سقف ودون تشريع، وكأن لا أحد قرأ في كتاب الانهيار أو رأى عمق القعر المالي والنقدي الذي نعيش.

رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان يؤكد لـ"النهار" "أن الموازنة بصيغتها الحكومية كناية عن اعتمادات عشوائية بلا رؤية اقتصادية، ومن دون الأخذ في الاعتبار تداعيات الانهيار المالي وانعكاساته الاجتماعية على مختلف شرائح المجتمع اللبناني بمؤسساته وأفراده وعماله". من هنا، يؤكد كنعان أن "السعي لمنع وقوع الكارثة، المتمثلة بصدور الموازنة وفق الصيغة الحكومية، هو واجب نيابي ووطني، لا سيما أن المشروع المحال من الحكومة يضرب الاقتصاد الشرعي ويسهم بتوسيع رقعة غير الشرعي لذلك كانت التعديلات لرفع الضرر".

بين 9 تشرين الأول 2023 وكانون الثاني 2024، عكفت لجنة المال والموازنة على "تفكيك ألغام" مشروع موازنة 2024 المحال من الحكومة. تسلمت كرة نار ضرائب ورسوم واعتمادات عشوائية، وتمكنت في مسارها التصحيحي، من إدخال تعديلات جوهرية على المشروع الحكومي، لتحوله قدر المستطاع، الى صيغة أفضل، تنتظر تبنيها من الهيئة العامة، رافضة استحداث ضرائب ورسوم جديدة في الوضع الاقتصادي والنقدي المنهار واحتجاز أموال الناس في المصارف، علماً بأن "النسخة الحكومية الكارثية" جاءت من دون رؤية اقتصادية، وبمداخيل للخزينة غير قابلة للتحقيق، ولم تترافق، بحسب الدستور، مع قطع حساب.

واللافت، أن الحكومة في "هندستها" للموازنة، لم تأخذ الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة في الاعتبار قبل إثقال المشروع برسوم وضرائب وغرامات سيدفع ثمنها المواطن.
وفي انتظار المؤتمر الصحافي لرئيس اللجنة النيابية إبراهيم كنعان المرجّح عقده الاثنين المقبل حول خلاصة التقرير النهائي للجنة، يبدو واضحاً أن اللجنة، في جلسات مسائية وصباحية، توصّلت بمشاركة أعضائها، وحضور نواب من مختلف الكتل، الى ترسيخ إصلاحات أساسية وبنيوية منها رفض تشريع فوضى الإنفاق من خارج اعتمادات الموازنة أو الاعتمادات الاستثنائية، ورفض إمكانية الدين من دون سقف ومن دون العودة الى مجلس النواب، ورفض الصلاحيات الاستنسابية للقروض المدعومة من مصرف لبنان (من أموال المودعين والتي مُنحت للمحظيّين والنافذين)، كما ألغت سلسلة إجراءات تهرّب الاستثمارات وتضغط على المواطن وتطال رواتبه وأجوره.

ولعل من أهم اكتشافات لجنة المال، أن عجز الموازنة الذي حدّدته الحكومة بـ17 ألف مليار ليرة، وهمي ودفتري، وأن سلفات الخزينة التي سمحت الحكومة لنفسها بأخذها، باتت بحدّ ذاتها موازنة ثانية تحت الطاولة.

في المقابل، عدلت اللجنة سلسلة نواقص أساسية. فالحكومة على سبيل المثال، حدّدت لصيانة المطار 3 مليارات ليرة فقط، فيما تطالب وزارة الأشغال بـ250 مليار ليرة.
ووجدت اللجنة أن الحكومة لم ترصد ضمن اعتمادات وزارة الصحّة أيّ مبلغ لتأمين دواء السرطان، فيما تصل الحاجة الى 12 ألف مليار ليرة.

في المقابل، ألغت لجنة المال أو عدّلت الكثير من الضرائب والرسوم التي سعت الحكومة الى فرضها في مشروع الموازنة. على سبيل المثال، ألغت الضرائب التي فُرضت على دخل اللبنانيين غير المقيمين في لبنان، ولكن لديهم أنشطة في البلاد. كذلك ألغيت التدابير القسرية، على غرار إحالة المكلفين الذين لم يعلنوا عن دخلهم للسلطات الضريبية الى المدّعي العام المالي أو حجز أصولهم.

ومن الإجراءات التي لحظتها وضع حد أقصى للرسوم التي كانت محتسبة على سعر صرف 1507،5، إذ يتم حالياً ضربها بعامل 46 مرة للرسوم و60 مرة لضريبة الدخل (أما الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية فيجري تحصيلها منذ أشهر وفق سعر السوق)، علماً بأن سعر الصرف الثابت منذ أشهر والبالغ 89500 ليرة، يعادل 60 مرة سعر الصرف القديم، الذي استبدل بسعر 15 ألف ليرة بحسب ما أقرّه مصرف لبنان في الأول من شباط 2023.

وصل احتياطي الموازنة، أي المبالغ المخصّصة لتغطية النفقات المتوقعة من دون انقطاع وكذلك لتلبية النفقات غير المتوقعة، إلى مستوى خيالي في مشروع الموازنة المحال من الحكومة (78000 مليار ليرة لبنانية أو 871 مليون دولار، أي 35% من النفقات). وقد خصّصت لجنة المال والموازنة جزءاً كبيراً من أموال الاحتياط لنفقات محددة، بما في ذلك تمويل تسوية مرتبات القطاع العام، التي تعادل 7 أضعاف قيمتها وفق سعر الصرف السابق. فضلاً عن 20 ألف مليار ليرة (223.5 مليون دولار وفق سعر السوق الحالي)، والتي يمكن استخدامها لتمويل "مكافآت الإنتاجية"، من بين تعديلات أخرى.

رفضت لجنة المال والموازنة تمويل سداد عشرات التريليونات من الليرات المقابلة لسلف الخزينة الممنوحة في عام 2023، وكذلك عامي 2022 و2021. وفيما سجلت الحكومة ما مجموعه 3500 مليار ليرة لبنانية (نحو 40 مليون دولار) في سلف ليتم سدادها، ولكن بعد التدقيق في البيانات والمستندات الرسمية، اكتشفت لجنة المال والموازنة ما يقارب 10 أضعاف إضافية، جرى توزيعها على العديد من الإدارات والمؤسسات. وقد وصل المبلغ الذي اعترفت به السلطة التنفيذية الى حدود 80 ألف مليار ليرة، ما يوازي 900 مليون دولار. ولم يُسدَّد أيّ من هذا المبلغ لمؤسسة كهرباء لبنان، التي تشكل عادة الشجرة التي يُخفى تحتها المال المهدور طوال 20 عاماً. وهذه النفقات لا تتضمّن خدمة الدين، نظراً لأن البلاد في حال تخلف عن سداد الدين ولم تقم حتى الآن بإعادة هيكلة ديونها.

سلوى البعلبكي - النهار

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o