Oct 03, 2023 1:07 PM
مقالات

العبيد السلاطين والسلاطين العبيد... ونحن

كتب النائب بيار بو عاصي مقالا بعنوان: العبيد السلاطين والسلاطين العبيد... ونحن، جاء فيه: 
 
"وما طَرَبي لمّا رأيتُكَ بدعةً
لقد كنت أرجو أن أراكَ فأُطربُ".

هل تعرفون هذا البيت لأبي الطيّب المتنبي؟ بالأغلب لا. بيتٌ آخر له، من القصيدة نفسها ، قد يميط اللثام عن اللغز علّكم تحزرون.

"وأخلاقُ كافورٍ إذا شِئتُ مدحه
وإن لم أشأ تُملي عليّ وأكتُبُ"

بيتان من قصيدة "أُغالِبُ بك الشوقَ والشوقُ أغلَبُ" لأبي الطيّب المتنبّي وهي واحدة من قصائد عدة نظَمَها في مديح كافور يوم كان كافور يغدق المكرمات على كبير الشعراء العرب.

لو بدأنا النص ببيت شعر كما
"لا تشترِ العبد الا والعصا معه
ان العبيد لأنجاسٌ مناكيد"
لما كان هنالك من تردد في الاجابة.

موهبة الشعر تخطّت قدرات وسائل التواصل الاجتماعي كافة، فها هي قصائد المتنبي تعبر القرون وتستوطن الاذهان.

لكن ما السرُّ بأن الأجيال حفظت واحتفظت بإرث المتنبي في هجاء كافور دون المديح؟ أهي عنصريّة دفينة فينا أم هي انحيازٌ لاكبر شعرائنا ام هي لذّةٌ لدينا في الانقضاض بالواسطة على السلاطين الذين ماتوا واندثرت ممالكهم؟

يوم المديح ويوم الهجاء لم يتغيّر شيء في كافور سوى قيمة المكرمات لشاعر البلاط. عبدٌ، مخصيّ، داكن البشرة، مثقوب الشفّة، قبيح المنظر، متثاقل الخطوات، هكذا كان كافور قبل المديح وبعده، قبل الهجاء وبعده. اللافت هو نحن وفضولنا، أو بالأحرى غياب الفضول في خضمّ إبداع الهجاء وكأنّما الشِعرُ والإبداع هما أفيون الشعوب. لم يستوقفنا كيف أنّ عبداً من سوق النخاسة أصبح سلطاناً على مصر وبلاد الشام.

 *من هو كافور الإخشيدي؟* 

أبو مسك كافور الإخشيدي (٩٠٥-٩٦٨م) من رقيق الحبشة في شرق #أفريقيا، عبدٌ تمّ شراؤهُ وبيعهُ عدّة مرّات قبل أن يصل القاهرة في سن الرابعة عشرة حيث اشتراه ملك مصر، محمد بن طغش الإخشيدي. تعلّم القراءة والكتابة في كنف سيّده وكان مخلصاً أميناً له فأعتقه سيّده من العبوديّة. خارق الذكاء، ملمّاً بالشؤون العسكرية والدبلوماسية، أُرسل كافور على رأس جيش لإخضاع بلاد الشام وهكذا كان، كما حمى مصر من الفاطميين.

بعد وفاة سيده، أصبح كافور حاكماً على مصر عام ٩٤٦. لم يكن وريث الحكم من الطبقة الحاكمة فحسب، بل كانت له مبايعة من الناس لأنه حاكم عادل ومعتدل، أحبّ العلماء والشعراء وكان سخيّاً معهم ومن بين هؤلاء ابو الطيب المتنبي.

هل كان كافور ظاهرة فريدة حيث أصبح العبدُ سلطاناً؟ بالواقع كلا وبامكاننا تعداد ثلاثة آخرين على الأقل وهذا ما سوف نفعل.

شاءت الظروف والارادة أن ينضمّ كلّ من سبك تكين وقُطُز وبيَبرَس إلى سلفهم أبو المسك في قائمة العبيد السلاطين، متحدّين بذلك كل التكهنات والتوقعات والأقدار.

 *من هو قُطُز؟* 

قد يبدو اسم قطز غريباً بعض الشيء وهو كذلك. من جذور ملكيّة فارسية ، وقع قطز في الأسر على يد التتار الذين اطلقوا عليه هذا اللقب والذي يعني "الكلب الشّرس"!

بيع قطز عبداً في بلاد الشام ثم بيع في القاهرة الى السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب.

إنخرط "الكلب الشرس" في جيش المماليك وكان له دور أساسي في التصدي لكل محاولات غزو مصر. حين قاد الملك الفرنسي لويس التاسع وهو القديس لويس، الحملة الصليبيّة السابعة، تصدّى له قطز مع جيوش المماليك فانتهت الحملة بأسر الملك القديس ثم اطلق في مقابل فدية كبيرة بعد ان تعهّد بانسحابه من مصر وبعدم العودة اليها. كان ذلك العام ١٢٥٠.

ولكن التهديدات ضد مصر لم تنته عند هذا الحد. انقضّت جيوش المغول والتتار على الدولة الأيوبية بعدما احتلّوا بغداد العبّاسية وعاثوا فيها قتلاً وتدميراً وتنكيلاً. إلتحم الجيشان المغولي والأيوبي في عين جالوت في فلسطين وكان قطز بطل المعركة ومهندس الانتصار وطارد المغول والتتار حتى القدس وبلاد الشام فحررها منهم.

تبوّأ قطز عرش مصر على وقع تداعيات سقوط الدولة الأيوبية وأصبح يعرف بسيف الدين.
لم تدم فترة حكمه اكثر من عام واحد ولكنه نجح في هذه الفترة الوجيزة في اعادة تعبئة الجيوش الاسلامية بعد سقوط بغداد.

قُتل قطز وهو في طريق العودة من دمشق إلى القاهرة، بعد خمسين يوماً من انتصاره في عين جالوت.

أمّا سبب مقتله فهو لعبة السلطة الداخليّة وكان لبَيبرس اليد الطولى في تدبير اغتياله ان لم يكن هو من قتله بيده.

 *من هو بَيبرس؟* 

الظاهرُ بيبرس شركسي من مناطق القوقاز حيث كلمة بيبرس تعني الفهد النبيل.
أسَره التتار حين كان طفلاً وبيع كعبدٍ في أسواق بغداد والشام حتى انتهى به الأمر عبداً في القاهرة في خدمة السلطان الصالح نجم الدين أيوب، كما قطز.

مقدام يتمتع بذكاء حاد، انضم "الفهد النبيل" الى جيش المماليك حيث خاض المعارك بشجاعة وانتصر قبل أن يتسلم قيادة هذا الجيش في ما بعد.

كما قطز، قاد وحدات كبيرة من الجيش المملوكي على جبهة المنصورة ضد الصليبيين الفرنسيين وملكهم القديس لويس التاسع.

كان الى جانب قطز في معركة عين جالوت ضدّ المغول والتتار حيث انتصرا انتصاراً مجلياً.
بعد اغتيال قطز بتدبير منه، أصبح بيبرس سلطان مصر والشام فكان المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية بفرعيها البحري والبرجي.

أحيا خلال حكمه الخلافة العباسية في القاهرة بعدما سقطت في بغداد على يد المغول.
برع بيبربس في الادارة والدبلوماسية والشؤون العسكرية، فكان رجل دولة بامتياز.

 *من هو "سبك تكين"؟* 

وُلد سبك تكين في قيرغستان من أصول سلاڤية وكان أحمر الشعر أزرق العينين. وقع في الأسر ونُقِل الى بخارى فاشتراه الحاكم ألب تكين الذي انشأ أوّل دولة اسلامية عصريّة في حينه.
كان حلمُ تأسيس الدولة الغزنوية يطغى على كل ما عداه لدى القادة والشعب.

صلبٌ وشجاع، متمرّس في الفنون الحربيّة والقتال، إختار قادة الجيش سبك تكين لخلافة الب تكين. فور مبايعته سلطانا اندفع سبك تكين بجيشه شرقاً فدمّر قلاع الهنود وهزم ملوك الهندوس ونشر الاسلام في الهند والسّند. نجح سبك تكين حيث فشل السلطان سلفه وأسّس الدولة الغزنويّة التي ترامت أطرافها من طهران الى الهند.

 *ما القاسم المشترك بين العبيد السلاطين الاربعة؟* 

مما لا شكًّ فيه إن الظروف ساعدت هؤلاء في اعتلاء العروش بعدما بيعوا في أسواق النخاسة فيما الألوف المؤلفة من العبيد ولدوا وعاشوا وماتوا تحت نير الاستعباد الرهيب.

ما ميّز هؤلاء الأربعة هو حبّهم وولاؤهم للدول والمجتمعات التي عاشوا فيها فتبنّوها قبل أن تتبنّاهم. دافعوا عن بلدانهم بالتبني قبل أن تطلب منهم ذلك. أمّا صلابتهم الفعلية فمصدرها اختيارهم الحرّ لهويّاتهم وهي الهويّة الأعمق. لم يعتبروا البلدان التي عاشوا فيها أراضي استعباد بل أراضي تحرّر بالاحترام والإلتزام، فغدوا سلاطين أحراراً. حرصوا كل الحرص على شعوبهم وفي خضمّ صراعات السلطة لم يأذنوا بإلحاق اي أذى بهذه الشعوب.

قاتلوا، أداروا دفة الحكم، سعوا لبحبوحة الناس، عدَلوا في الحكم واعتدلوا فيه. كانت فيهم صفات السلاطين فأصبحوا سلاطين حتى قبل أن ينعتقوا.

 *من هم السلاطين العبيد ومن نحن؟* 

إنّهم تقريباً جميع سلاطين الأرض.

كم من سلطان سكِر على رأس هرم السلطة، فاعتبر ان الناس عبيدٌ له، ملزمون به، لا خيار لهم غيره فهو السلطان ابن السلطان وسلالة السلاطين. هذا النوع من السلاطين هم عبيد الاستكبار.

حين نتكلّم عن السلطان نتكلّم عن كلّ قابض على زمام السلطة. لم تُغيّر الديمقراطية في ذلك الشيء الكثير وجُلّ ما فعلته هو تأمين التداول السلمي للسلاطين الطامحين على رأس السلطة.

كلّ حاكم كبّل شعبه بأغلال الخوف وجنازير الحقد ووهم القوّة وأسَر الناس في سجن الإنصياع الأعمى له هو سلطان عبدُ شهوة الاستعباد.

كرّمت الشعوب عبر الأجيال عبيدها السلاطين لما قدموه لها. تنتهي الشعوب لا محالة باحتقار السلاطين الذين كذبوا عليها فظلموها، لتأسرهم بدورها في زنزانة العبيد مدى الدهر.

بعضُنا عبيد افكاره المسبقة وخوفه ودونيّته وتبعيّته العمياء ولا بدّ والحال هذه من اعادة النظر في كل هذه المفاهيم وموقفنا منها، فنضع نصب اعيننا الهوية والقيم المشتركة ومصلحة مجتمعنا. انّه السبيل الوحيد لكي نتحرّر فنصبح سلاطين غير عبيد، تاجنا مصلحة وطننا العليا، صولجاننا الحرية وسيفنا العدل والرحمة.
 

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o