Jul 27, 2023 8:04 AM
مقالات

تركيا... الوافد الأمني الجديد إلى الخليج

انطلقت مع جولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخليجية التي استهلها بزيارة المملكة العربية السعودية في مطلع الأسبوع المنصرم، مرحلة مختلفة ونوعية من العلاقات الخليجية التركية من بوابة الرياض. مرحلة لا يمكن اختصارها بالبعدين الاقتصادي والاستثماري بين الدولتين بل بإرساء الأسس لشراكة حقيقية بالمعنى الشامل لهذا المفهوم.

لقد قارب البيان المشترك كل القضايا الدولية والإقليمية بما يؤكد المسؤولية المشتركة لتركيا والمملكة في مواجهة تحديات الاقتصاد العالمي من خلال التكامل الاقتصادي واستقرار أسواق الطاقة وتعزيز التعاون المشترك في القطاع الصناعي والاقتصاد الرقمي وبما يحقق النمو المستدام.

كما حاز الجانبان الأمني والدفاعي جزءا كبيرا في البيان المشترك، من خلال التأكيد على الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وتوقيع الخطة التنفيذية للتعاون في مجالات القدرات والصناعات الدفاعية والأبحاث والتطوير، لا سيما عقدي الاستحواذ بين وزارة الدفاع وشركة "بايكار" التركية للصناعات الدفاعية لتوطين صناعة الطائرات المسيَرة والأنظمة المكونة لها داخل المملكة، وبما يؤمن نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك. هذا وقد بدا واضحا التكامل بين الجانبين فيما يتعلق بالتماهي في المواقف حيال القضايا الإقليمية لا سيما الأزمة اليمنية والملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية والوضع المتفجر بالسودان والحرب في أوكرانيا ودائما من خلال قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة وبما يحافظ على السلم والأمن الدوليين.

ففي أي سياق تأتي الزيارة الرئاسية التركية؟ وهل أصبحت تركيا شريكا في المنظومة الأمنية في الخليج العربي؟ ما هي تطلعات أنقرة وقدرتها على لعب هذا الدور؟ كيف يمكن للجهات الإقليمية الفاعلة (دول مجلس التعاون الخليجي وإيران) أن ترى دورا أمنيا تركيا معززا في الخليج؟

أمن الخليج العربي، تحولات دولية وتغيّرات بنيوية

شهدت منطقة الخليج العربي في العام 1971 التحول الأول في بنيتها الأمنية مع تراجع النفوذ البريطاني وانتهاء دور المملكة المتحدة ووجودها العسكري وصعود الدور الأميركي في الخليج. استكملت السيطرة الأمنية الأميركية على منطقة الخليج العربي مع سقوط شاه إيران وسيطرة نظام إسلامي متشدد على الحكم عام 1979 وغزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في نهاية ذلك العام عبر تطوير الولايات المتحدة لما أصبح يعرف فيما بعد بــ"عقيدة كارتر".

وقد كان لهذه العقيدة أهداف أولية عدة: احتواء امتداد الثورة الإيرانية، منع الاتحاد السوفياتي من الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج، حماية آبار النفط في المنطقة وتشجيع تعاون دول المنطقة تحت المظلة الأميركية. كما تقدمت فكرة التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة واستخدام الأسلحة النووية لحماية المصالح الأميركية.

لقد بقي أمن الخليج العربي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خاضعا لثوابت ثلاثة. أولها، استمرار التهديد الإيراني لدول الخليج العربي وأمن منطقة الخليج ما دفعها إلى صياغة سياساتها الخارجية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي. ثانيا، وجود كثير من الثغرات ونقاط الضعف لدى دول الخليج لا سيما على المستويين العسكري والدفاعي. وأخيرا استئثار الولايات المتحدة بدور الضامن الأمني لدول ومنطقة الخليج العربي.

وبالتزامن مع انطلاق الاحتجاجات في أكثر من بلد عربي عام 2011، ظهرت أشكال جديدة من التهديدات وارتفعت الحاجة لمزيد من الضمانات الأمنية في ظل ظروف دولية غير ملائمة وتبدل في الأولويات الأميركية؛ فبالإضافة إلى التهديد التقليدي الذي تشكله إيران، واجهت حكومات دول الخليج العربي أشكالا جديدة من التهديدات الناجمة عن تصاعد أشكال الإرهاب والتطرف والقرصنة البحرية، وانتشار الميليشيات على حدودها وترددات الانتفاضات في الشارع العربي التي أدت إلى تباينات في المواقف بين دول مجلس التعاون الخليجي. كما أدى الفراغ الإقليمي الناشئ عن تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى تنافس إقليمي شرس على النفوذ عبّرت عنه كل من إيران وإسرائيل وتركيا بمزيد من التفرد في سياساتها الخارجية وبتنامي أنشطتها العسكرية. هذا وقد كثفت روسيا من وجودها العسكري وتدخلها في المنطقة في حين كثفت الصين والهند من وجودهما الاقتصادي.

أدى كل ذلك إلى تراجع غير مسبوق في ثقة دول مجلس التعاون الخليجي بواشنطن كضامن أساسي للأمن. وقد ساهمت تطورات مهمة ومواقف أميركية عدة بشكل كبير في هذا التراجع لا سيما خلال إدارتي باراك أوباما (2009-2016) ودونالد ترامب (2017-2020)، حيث بدا من الضرورة لدول الخليج العربي البحث عن أساليب جديدة لسد الفجوة المتسعة بين التهديدات المتزايدة وانخفاض الالتزامات الأمنية الأميركية. وقد باشرت دول مجلس التعاون الخليجي بداية باتباع سياسات خارجية وأنشطة عسكرية غير تقليدية استجابة للتوجهات الأمنية الناشئة حديثا، وربما اعتقدت الولايات المتحدة أن هذا التطور الإيجابي من شأنه أن يخفف الأعباء عن كاهلها ويعزز الأمن الجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي.

لقد دفعت تداعيات التقلبات الإقليمية وإلزامات التعويض عن الانخفاض في مستوى الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة بدول الخليج العربي إلى تغيير استراتيجياتها على مستويات ثلاثة: التنويع في مصادر الإمدادات بالأسلحة، والتنويع في الشراكات، والتنويع في التحالفات. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال إلى حد بعيد اللاعب الأمني الأهم في الخليج، إلا أن استراتيجيات التنويع فتحت الباب أمام جهات فاعلة إقليمية وخارجية وتقليدية ووافدة جديدة مثل الصين والهند وروسيا وتركيا للانخراط في منطقة الخليج. وقد أدى هذا الوضع إلى ما يمكن تسميته بـأمن الخليج المتعدد الأقطاب مما يطرح كثيرا من التساؤلات حول آفاق أمن الخليج والدور المحتمل للقادمين الجدد في المنطقة.

الطموحات التركية في منطقة الخليج

أطلق حزب العدالة والتنمية مع وصوله إلى السلطة في تركيا عام 2002 سياسة خارجية جديدة متعددة الأبعاد وذات رؤية لرفع مكانة تركيا ودورها وتأثيرها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وقد تمت صياغة السياسة الخارجية بالاستناد إلى فهم شامل للجغرافيا والتاريخ لتحقيق رؤية طموحة تجعل من تركيا جهة فاعلة عالمية وواحدة من أقوى عشرة اقتصادات في العالم.

على الرغم من ثبات هذه الرؤية على المستوى الاستراتيجي، إلا أن السياسة الخارجية لتركيا التي اعتمدت القوة الناعمة لتحقيق المصالح الوطنية للبلاد وتطلعاتها الخارجية شهدت تحوّلا في أعقاب الاحتجاجات العربية عام 2011، حيث أدت التهديدات الإقليمية المتزايدة إلى الاعتماد في الغالب على القوة الصارمة والسياسات الحازمة فسعت أنقرة إلى لعب دور أمني أكبر على المستوى الإقليمي وزيادة وجودها العسكري المباشر في الخارج.

يمكن رؤية تجليات تطلع تركيا إلى لعب دور أمني أكبر في منطقة الخليج بوضوح في القاعدة التركية في قطر، وهي أول قاعدة عسكرية لأنقرة في الخارج. يعود هذا الطموح إلى عام 2014 على الأقل عندما وقّعت تركيا وقطر اتّفاق التحالف بينهما. وفي عام 2015 أرسلت تركيا بالفعل بعض القوات لتتمركز في قاعدة طارق بن زياد. وفي حين اعتبر كثير من الخبراء والمراقبين هذه الخطوة مجرد عرض للتضامن، أكد سفير تركيا في قطر، أحمد دميروك أن القاعدة "متعددة الأغراض" فهي مركز للتدريب ومواجهة التهديدات المشتركة في الوقت عينه. وقد كشف أحمد داود أوغلو، رئيس وزراء تركيا في ذلك الوقت، في أبريل/نيسان 2016 عن المهمة الواسعة للقاعدة عندما ربط أمن قطر بأمن تركيا، مؤكدا أن الهدف هو "خليج مستقر وآمن". 

وعندما اندلعت أزمة الخليج عام 2017، تقدمت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر بـ13 مطلبا لإنهاء الحصار المفروض على قطر. وطالب أحد هذه الشروط بالإغلاق الفوري للقاعدة العسكرية التركية في قطر، ووقف التعاون العسكري مع تركيا. وقد رفضت أنقرة هذه الدعوة وأكدت أن القاعدة هي ضامن للأمن في الخليج، وقد أبلغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزير خارجية البحرين خلال زيارة الأخير إلى أنقرة في يونيو/حزيران 2017 أن القاعدة العسكرية التركية في قطر "تهدف إلى المساهمة في أمن منطقة الخليج بأكملها ولا تستهدف أي دولة خليجية بعينها... نحن نرى أمن واستقرار الخليج كإحدى أولوياتنا". كما أكد وزير الدفاع التركي في ذلك الوقت، فكري إيشيك، أن السلام في منطقة الخليج هو مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط، وقال مخاطبا الجنود الأتراك: "إن وجودكم هنا يخدم السلام والاستقرار ليس فقط في قطر، البلد الشقيق، ولكن أيضا في منطقة الخليج بأكملها."

تقدم تصريحات هؤلاء المسؤولين الأتراك بشأن أمن الخليج دليلا وافيا على تطلع أنقرة إلى أن تصبح شريكا أمنيا في منطقة الخليج. علاوة على ذلك، يؤكدون أن القاعدة العسكرية التركية في قطر لم تكن رد فعل على بعض التطورات الأمنية العاجلة والمؤقتة، بل كانت خيارا عقلانيا واستراتيجيا تم اتّخاذه قبل سنوات. وفي حين قد يعزو البعض هذه التصريحات إلى الأزمة في ذلك الوقت، فإن المراقبة المنهجية لموقف تركيا من أمن الخليج واستعداد أنقرة للعب دور أكبر في أمن الخليج بعد اتفاق العلا في يناير/كانون الثاني 2021، الذي أنهى الحصار المفروض على قطر ومهد الطريق لمصالحة إقليمية أوسع، تشير إلى خلاف ذلك.

وفي مقال نشر في فبراير/شباط 2022 في صحيفة "خليج تايمز" الإماراتية، أكد أردوغان: "نحن لا نفصل بين أمن واستقرار دولة الإمارات العربية المتحدة وإخواننا الآخرين في منطقة الخليج عن أمن واستقرار بلادنا". 

تركيا وموجبات تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية

ساهمت الأزمة السورية، بما في ذلك الموقف المتردد لحلفاء أنقرة الغربيين بقيادة الولايات المتحدة تجاه نظام الأسد وصعود الميليشيات الكردية السورية في شمال سوريا والدعم الغربي لوحدات الحماية الشعبية الكردية (YPG)، والتدخل العسكري الروسي في الصراع السوري، في إحداث تحوّل استراتيجي في سياسة تركيا الخارجية. 
استشعرت أنقرة حراجة الموقف وضرورة الامساك بزمام الأمور بنفسها، بدلا من الاعتماد على الآخرين، وقد تدرجت السياسة الخارجية التركية من "منطق الاعتماد المتبادل، ودور الوسيط والتكامل" إلى "الاكتفاء الذاتي المترافق مع الدبلوماسية الصارمة والتدخل العسكري". هذا وقد تركت محاولة الانقلاب عام 2016 والأحداث اللاحقة، بما في ذلك استفتاء عام 2017 على التغييرات الدستورية وانتخابات 2018، آثارا عميقة على النظام السياسي في البلاد أيضا، وأدت إلى ظهور نظام رئاسي يتمتع بسلطات تنفيذية عارمة ومزيد من المركزية في اتخاذ القرارات. وقد كان لهذا تأثير هائل على ظهور سياسة خارجية أكثر حزما وسعيا نحو تحقيق الاستقلال الذاتي على المستوى الاستراتيجي.
وسط الفراغ الناشئ في الشرق الأوسط، قدّمت عدة عوامل لأنقرة سببا منطقيا لوضع قوتها الصارمة موضع التنفيذ، بما في ذلك صعود التطرف والإرهاب والتدخلات الغربية عبر الحروب بالوكالة. لجأت تركيا إلى استعراض قوتها الصلبة عبر أشكال عديدة بما في ذلك العمليات العسكرية خارج الحدود الإقليمية، والانتشار العسكري على أرض أجنبية، والقواعد العسكرية الأمامية، واستعراض قوتها البرية والبحرية والجوية في كثير من المسارح الإقليمية الحاسمة في بلاد الشام، والخليج، والقرن الأفريقي، وشمال أفريقيا، وشرق البحر الأبيض المتوسط، وجنوب القوقاز.

الخليج العربي وتركيا.. خطى على طريق التكامل الدفاعي والأمني

وفي إطار تحقيق قطاع دفاع محلي واعد وقوي تمكنت أنقرة من تقليل اعتمادها على واردات الدفاع الأجنبية من نحو 70 في المئة إلى 30 في المئة في أقل من 18 عاما. علاوة على ذلك انخفضت واردات تركيا من الأسلحة بنسبة 59 في المئة بين عاميّ 2016 و2020 مقارنة بالفترة بين عاميّ 2011 و2015، مع انخفاض عمليات نقل الأسلحة الأميركية إلى أنقرة بنسبة 81 في المئة. 

أما فيما يتعلق بمبيعات قطاع الصناعات الدفاعية والفضائية، فقد ارتفعت من حوالي مليار دولار في عام 2002 إلى أكثر من 11 مليار دولار في عام 2020. وزادت صادرات تركيا من المنتجات الدفاعية من 248 مليون دولار في عام 2002 إلى أكثر من 4 مليارات دولار في نهاية عام 2022. 

وبالنظر إلى وتيرة ونطاق الإنجازات في هذا القطاع والطبيعة الاستراتيجية للمنتجات الدفاعية قيد التطوير حاليا في المجالات البرية والجوية والبحرية والفضائية، يعتقد صناع القرار في تركيا أن أنقرة قادرة على أداء دور أمني رائد بمواجهة التهديدات، ورسم شراكات أمنية جديدة، وتوسيع الصادرات الدفاعية، والحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. 

وفي ما يتعلق بمنطقة الخليج، وبسبب عوامل عدة ومنها الطبيعة العدائية للبيئة الجيوسياسية والتنافس مع إيران، وحاجة دول الخليج العربي إلى حماية نفسها من مجموعة من التهديدات المتزايدة، فقد حلّت ثلاث دول من مجلس التعاون الخليجي بين أكبر عشر دول مستوردة للأسلحة في العالم في الفترة بين عامي 2016 و2020، مع تبوؤ المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى، وكلّ من قطر والإمارات العربية المتحدة المرتبة الثامنة والتاسعة. 

وفي مقال نشر في فبراير/شباط 2022 في صحيفة "خليج تايمز" الإماراتية، أكد أردوغان: "نحن لا نفصل بين أمن واستقرار دولة الإمارات العربية المتحدة وإخواننا الآخرين في منطقة الخليج عن أمن واستقرار بلادنا". 

تركيا وموجبات تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية

ساهمت الأزمة السورية، بما في ذلك الموقف المتردد لحلفاء أنقرة الغربيين بقيادة الولايات المتحدة تجاه نظام الأسد وصعود الميليشيات الكردية السورية في شمال سوريا والدعم الغربي لوحدات الحماية الشعبية الكردية (YPG)، والتدخل العسكري الروسي في الصراع السوري، في إحداث تحوّل استراتيجي في سياسة تركيا الخارجية. 
استشعرت أنقرة حراجة الموقف وضرورة الامساك بزمام الأمور بنفسها، بدلا من الاعتماد على الآخرين، وقد تدرجت السياسة الخارجية التركية من "منطق الاعتماد المتبادل، ودور الوسيط والتكامل" إلى "الاكتفاء الذاتي المترافق مع الدبلوماسية الصارمة والتدخل العسكري". هذا وقد تركت محاولة الانقلاب عام 2016 والأحداث اللاحقة، بما في ذلك استفتاء عام 2017 على التغييرات الدستورية وانتخابات 2018، آثارا عميقة على النظام السياسي في البلاد أيضا، وأدت إلى ظهور نظام رئاسي يتمتع بسلطات تنفيذية عارمة ومزيد من المركزية في اتخاذ القرارات. وقد كان لهذا تأثير هائل على ظهور سياسة خارجية أكثر حزما وسعيا نحو تحقيق الاستقلال الذاتي على المستوى الاستراتيجي.
وسط الفراغ الناشئ في الشرق الأوسط، قدّمت عدة عوامل لأنقرة سببا منطقيا لوضع قوتها الصارمة موضع التنفيذ، بما في ذلك صعود التطرف والإرهاب والتدخلات الغربية عبر الحروب بالوكالة. لجأت تركيا إلى استعراض قوتها الصلبة عبر أشكال عديدة بما في ذلك العمليات العسكرية خارج الحدود الإقليمية، والانتشار العسكري على أرض أجنبية، والقواعد العسكرية الأمامية، واستعراض قوتها البرية والبحرية والجوية في كثير من المسارح الإقليمية الحاسمة في بلاد الشام، والخليج، والقرن الأفريقي، وشمال أفريقيا، وشرق البحر الأبيض المتوسط، وجنوب القوقاز.

الخليج العربي وتركيا.. خطى على طريق التكامل الدفاعي والأمني

وفي إطار تحقيق قطاع دفاع محلي واعد وقوي تمكنت أنقرة من تقليل اعتمادها على واردات الدفاع الأجنبية من نحو 70 في المئة إلى 30 في المئة في أقل من 18 عاما. علاوة على ذلك انخفضت واردات تركيا من الأسلحة بنسبة 59 في المئة بين عاميّ 2016 و2020 مقارنة بالفترة بين عاميّ 2011 و2015، مع انخفاض عمليات نقل الأسلحة الأميركية إلى أنقرة بنسبة 81 في المئة. 

أما فيما يتعلق بمبيعات قطاع الصناعات الدفاعية والفضائية، فقد ارتفعت من حوالي مليار دولار في عام 2002 إلى أكثر من 11 مليار دولار في عام 2020. وزادت صادرات تركيا من المنتجات الدفاعية من 248 مليون دولار في عام 2002 إلى أكثر من 4 مليارات دولار في نهاية عام 2022. 

وبالنظر إلى وتيرة ونطاق الإنجازات في هذا القطاع والطبيعة الاستراتيجية للمنتجات الدفاعية قيد التطوير حاليا في المجالات البرية والجوية والبحرية والفضائية، يعتقد صناع القرار في تركيا أن أنقرة قادرة على أداء دور أمني رائد بمواجهة التهديدات، ورسم شراكات أمنية جديدة، وتوسيع الصادرات الدفاعية، والحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. 

وفي ما يتعلق بمنطقة الخليج، وبسبب عوامل عدة ومنها الطبيعة العدائية للبيئة الجيوسياسية والتنافس مع إيران، وحاجة دول الخليج العربي إلى حماية نفسها من مجموعة من التهديدات المتزايدة، فقد حلّت ثلاث دول من مجلس التعاون الخليجي بين أكبر عشر دول مستوردة للأسلحة في العالم في الفترة بين عامي 2016 و2020، مع تبوؤ المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى، وكلّ من قطر والإمارات العربية المتحدة المرتبة الثامنة والتاسعة. 

وبالإضافة إلى العلاقة بين قطر وتركيا التي بدأت عام 2014 وبناء قاعدة عسكرية لاستضافة القوات التركية على الأراضي القطرية. فقد برزت عُمان بين 2017 و2021 كأكبر مستورد من صادرات الأسلحة التي تمثل 16 في المئة من إجمالي صادرات الأسلحة التركية، بينما جاءت قطر في المرتبة الثالثة بنسبة 14 في المئة. وتؤكد هذه الأرقام أن هناك مجالا للمزيد في المستقبل، خاصة إذا حافظت تركيا على وتيرتها السريعة في تطوير صناعة الدفاع المحلية.

أنقرة وتحديات الدور الأمني التركي في الخليج 

مرت العلاقات بين تركيا وبعض دول مجلس التعاون الخليجي بين عامي 2017 و2020 بصعوبات ونكسات وحتى بأزمات. لكن اتّفاق العلا عام 2021 بين مجموعة الدول التي تقودها السعودية وقطر الذي أنهى أزمة الخليج عام 2017 مهد الطريق لتطبيع العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وتركيا من جهة وتركيا والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى. وقد أثبت هذا التطور الإيجابي أن التصدعات والخلافات بين تركيا وبعض دول مجلس التعاون الخليجي لا ترقى إلى مستوى المصالح المشتركة والمقتضيات الاستراتيجية الإقليمية، الأمر الذي يتطلب التعاون والتنسيق بين مختلف الدول.

تؤكد التجربة أن دول الخليج لا تتفق غالبا في القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية بما في ذلك ما يتعلق بتطلع تركيا إلى لعب دور أمني معزز في الخليج. وبهذا المعنى، فإن مواقف هذه الدول من تركيا ستختلف باختلاف الظروف والتوقيت. وفي حين تتمتع تركيا بعلاقة نوعية مع دولة قطر منذ عام 2014 بما يجعلها تؤيد دورا تركيا أكثر أهمية في الخليج لكن قبول كل من الكويت وعمان يبقى رهنا بشروط أساسية:
1- ثبات العلاقات الحالية مع تركيا على المسار نفسه في المستقبل.
2- عدم وجود تناقض كبير بين تركيا والولايات المتحدة.
3- عدم وجود اعتراض مبدئي وصريح من المملكة العربية السعودية.

يضاف إلى هذه الشروط خصوصيات عمان حيال إيران، نظرا لطبيعة ونطاق علاقاتها مع طهران، التي تعد من المنافسين الإقليميين لأنقرة. وعلى الرغم من أن البلدين يتمتعان بعلاقات جيدة مع أنقرة، فإن كلا من الكويت ومسقط تفضلان الذهاب باتّجاه المملكة المتحدة كضامن إضافي لأمنهما.

أما بالنسبة لدولة الإمارات والسعودية، فإن القبول بدور أمني تركي معزز يستلزم المزيد من الدقة والمعالجة وفقا لكل حالة وقد يحول دونه الموقع المتقدم للمملكة العربية السعودية على المستوى الدولي والعلاقات الاستراتيجية التي تمكنت من بنائها مع القوى الدولية من جهة والاعتبارات التركية حيال طهران من جهة أخرى. ومع ذلك قد يبدو أن أبوظبي أكثر انفتاحا من المملكة العربية السعودية، على الأقل من الناحية النظرية، على مشاركة أمنية تركية معززة في الخليج، بشرط وجود قدر استثنائي من تدابير بناء الثقة وغياب الاعتبارات الآيديولوجية. 
وبالرغم من الاختلاف بين دولة الإمارات التي تعتبر القواعد الأجنبية مصدرا للقوة، والسعودية التي تنظر إلى وجود القواعد الأجنبية كمؤشر على ضعف الدولة وتقويض لشرعية حكامها، فإن وجود كثير من القواعد الأجنبية في الإمارات العربية المتحدة التي تستضيف قوات من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا وإيطاليا سيثير حساسيات عديدة حيال أي تطور للدور التركي. 

أما فيما يتعلق بإيران، المنافس التاريخي لتركيا في المنطقة، فقد تمكنت الدولتان من التعاون في بعض القضايا الإقليمية في الآونة الأخيرة، ولكن في الوقت نفسه وجدا نفسيهما في مواقف متضاربة بشأن كثير من القضايا الأخرى. فعلى الرغم من أن أزمة الخليج عام 2017 أجبرت أنقرة على الاقتراب من إيران لمساعدة قطر في التغلب على الحصار، فإن طهران لن تنظر بعين الرضا إلى أي دور اقتصادي أو أمني أكبر لتركيا في قطر والخليج. 
وخلال الفترة المبكرة من الأزمة الخليجية مع قطر، أعاقت السلطات الإيرانية مرور الشاحنات التركية التي تنقل المواد الغذائية والبضائع إلى قطر متذرعة بإجراءات بيروقراطية. واستمر هذا الوضع إلى أن توصلت الأطراف الثلاثة (تركيا وقطر وإيران) إلى اتّفاق شفوي في أغسطس/آب 2017، واتفاق تم توقيعه في نوفمبر/تشرين الثاني 2017. كذلك فإن طهران لم تتقبل الوجود العسكري التركي المباشر في قطر وقد أعربت عن مخاوفها حيال النشر المحتمل للطائرات التركية في الدوحة.

ويمكن رؤية تجليات هذه العلاقة المعقدة بين تركيا وإيران بوضوح في العراق وسوريا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، من بين مسارح أخرى. في الواقع تستند الاستراتيجية الإيرانية تجاه تركيا في الشرق الأوسط إلى قطع طرق أنقرة المؤدية إلى منطقة الخليج بقطعها عن الاتصال البري، وامتداد المواقع الإيرانية من العراق عبر سوريا إلى لبنان، حيث تستثمر إيران بكثافة في جهود مواجهة تركيا.

أخيرا، تم تشكيل الدور الأمني لتركيا في الخليج خلال العقد الماضي من خلال كثير من الديناميكيات الداخلية والإقليمية والدولية الهامة. وقد ساهمت المتغيّرات الإقليمية، وطبيعة علاقات أنقرة مع إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن التحول في أولويات واشنطن العالمية في زيادة دور أنقرة الأمني في الخليج. ومع ذلك، فإن تطلعات المؤسسة التركية ورغبتها وإرادتها في السعي للحصول على دور أمني مرتفع لتركيا في منطقة الخليج قد تأثرت أيضا بالديناميات الداخلية للبلاد، إذ شجعت السياسة الخارجية المستقلة لتركيا بشكل متزايد، وظهور صناعة الدفاع المحلية، وسياستها الدفاعية المتقدمة، شجعت صناع القرار في أنقرة على التطلع إلى دور أكثر نشاطا في الخليج.

بينما يظهر المسؤولون الأتراك أن لديهم تطلعات وإرادة للعب دور أمني معزز في منطقة الخليج، لا تزال قدرة تركيا موضع تساؤل لبعض المراقبين. والجواب على هذا السؤال مرتبط بشكل أساسي بطبيعة ونطاق الدور المأمول في أمن الخليج. علاوة على ذلك، قد تكون تفضيلات اللاعبين الإقليميين والخارجيين الناشطين في مجال الأمن في منطقة الخليج، فضلا عن مصالح القادمين الجدد الآخرين، عقبة أمام طموحات تركيا. 

ومن الصعب التنبؤ بالمستقبل في منطقة شديدة التقلب وغير مستقرة خاصة مع المتغيرات التي لا حصر لها التي ينطوي عليها كل موقف. ولكن مع استمرار الاتجاه الحالي للولايات المتحدة بالانفصال عن المنطقة وفي ظل الموقف الإقليمي الصاعد لتركيا والقفزات السريعة في صناعة الدفاع، فقد تتاح لأنقرة فرصة لتعزيز موقعها في الخليج والتقدم نحو دور أمني معزز. 

ومع ذلك، يجب دائما أخذ الديناميكيات الداخلية والإقليمية والدولية بعين الاعتبار، كما يتعيّن على تركيا تحقيق الاستقرار في سياساتها الداخلية، وتعزيز قوتها الاقتصادية، وزيادة تفاعلها التجاري بشكل كبير مع دول الخليج للتنافس مع الجهات الفاعلة من خارج المنطقة وتسهيل دور أمني معزز محتمل في المستقبل. إن القرب الجغرافي لتركيا واستعدادها لمشاركة التكنولوجيا الدفاعية، وسمعتها كشريك موثوق به وملتزم وذي مصداقية وقادر في مختلف المسارح الجيوسياسية مثل الخليج (2017)، وشمال أفريقيا (2019)، والمشرق (2020)، وجنوب القوقاز (2020)، يمكن أن يمنحها نفوذا على المنافسين ويسهل تقدّمها لدور أمني في الخليج. 

العميد الركن خالد حماده - المجلة

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o