Jun 29, 2023 6:55 PM
متفرقات

العبسي في عيد القديسين بطرس وبولس: نستغفر كل من أسأنا إليهم

ترأس بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي عصر اليوم الذبيحة الالهية في كنيسة القديس بولس في حريصا بمناسبة عيد القديسين بطرس وبولس الذي تزامن مع اليوبيل الكهنوتي الذهبي لصاحب الغبطة وللاب الياس اغيا واليوبيل الكهنوتي الفضي للابوين جان بو شروش ومروان سيدي ، عاونه لفيف من المطارنة والكهنة  بحضور بطريرك السريان الكاثوليك يوسف الثالث يونان ، و مطارنة بيروت ، و طرابلس ، و صور ، و فنزويلا  ،و اللاذقية ، و البرازيل ، و كندا.  والولايات المتحدة الاميركية و اللواء الركن بيار صعب عضو المجلس العسكري و العميد فادي صليبا مفتش عام قوى الامن الداخلي ، نقيب اطباء لبنان في بيروت البروفسور يوسف بخاش ، ومدعي عام البقاع القاضي منيف بركات ورئيس المجلس الاقتصادي و الاجتماعي شارل عربيد، ورئيس جمعية طلال المقدسي الانمائية الدكتور طلال المقدسي  ،  و القنصل كابي ابو رجيلي و رؤساء عامون و رئيسات عامات و رؤساء بلديات و مخاتير و حشد من الكهنة و الراهبات و المؤمنين. 
وبعد الانجيل المقدس القى العبسي كلمة قال فيها :


في هذا النهار التاسع والعشرين من حزيران تقيم الكنيسة جمعاء تذكارًا مقدّسًا للقدّيسين الرسولين بطرس وبولس هامتي الرسل متأمّلةً في سيرتهما ومادحة الأعمال التي عملاها في نشر كلمة السيّد المسيح الذي دعاهما إلى اتّباعه.
يخبرنا الإنجيل أنّ السيّد المسيح "فيما كان ماشيًا على شاطئ بحر الجليل رأى أخوين، سمعانَ الذي يقال له بطرسُ وأندراوسَ أخاه، يلقيان شبكة في البحر لأنّهما كانا صيّادين  فقال لهما ’اتبعاني فأجعلكما صيّادي بشر‘ فتركا للوقت شباكهما وتبعاه". هذه الرواية من الإنجيل تسمّيها الكنيسة "دعوة الرسل"،  حيث نرى السيّد المسيح يدعو  بطرسَ وأولئك الذين عُرفوا فيما بعد بالرسل الاثني عشر إلى أن يتبعوه.
القارئ أو السامع لهذا الإنجيل ينتابه التعجّب، التعجّب من كيف دعا السيّدُ المسيح بطرسَ، والتعجّبُ من كيف لبّى بطرسُ الدعوة. دعوة السيّد المسيح لبطرس، في الواقع، كما وردت في الإنجيل، ليست  دعوة بل هي أمر، كأنّ هناك حاجة ملحّة أو حالةً طارئة تستدعي الفوريّة، أن نقوم فورًا وننفّذ ونلبّي من دون أن نسأل. دعوة المسيح لبطرس ليس فيها "أخذ وعطاء"، لا سؤال ولا جواب، بل أن نلبّي من دون أن نعلم ما الأمر ومن قبل أن نعلم، وقد يبقى الأمر في علم الله.
في الواقع، حين يطلب يسوع لا يسأل هل تريد أو لا تريد. للمرضى طالبي الشفاء كان يقول أحيانًا هل تريد أن تشفى، هل تؤمن؟ لكن لـمّا كان الموضوع يتعلّق بالدعوة إلى اتّباعه فما كان يخيّر بل كان يأمر. هذا ما فعله أيضًا مع متّى ومع فيلبّس ومع سائر الرسل. هذا ما فعله بطريقة مميّزة مع بولس الرسول. ظهر له فجأة على طريق دمشق وبادره قائلًا: "انهض وادخل المدينة فيقال لك ماذا عليك أن تفعل". يقال لك ماذا عليك أن تفعل، أي أن تلبّي وتنفّذ.
السيّد المسيح يأمر، يأمر البشر كما يأمر الطبيعة، البحر والريح والتينة و كما يأمر الشيطان. وأمرُ يسوع واضح لا غموض فيه ولا تردّد ولا يحتمل التأويل، أمرُه لبطرس وبولس ولسائر الرسل، وللسيّدة العذراء: "ها أنت تحبلين وتلدين ابنًا سمّه يسوع"، وليوسف البتول "قم فخذ الصبيّ وأمّه"، ولكثيرين في تاريخ الكنيسة وفي العهد القديم. قبْلَ يسوعَ كان التلميذ يختار معلّمه، أمّا يسوع فهو الذي يختار. لكنّ اختيار السيّد المسيح في أغلب الأحيان لا يكون ظاهريًّا كما حصل للرسل وللبعض الآخرين، بل داخليًّا، نشعر كأنّ في داخلنا قوّة أقوى منّا تنادينا وتدفعنا وتقول لنا "قم"، قوّةً لا نستطيع أن نعاكسها أو نقاومها أو حتّى أن نتجاهلها بل ننقادُ لها. هذه القوّة هي صوت المسيح يقول لنا "تعال اتبعني". إن لم نصل في أمر دعوتنا إلى مثل هذه الدرجة من القوّة بحيث لا نستطيع أن نرفض الربّ يسوع كما حدث لبولس الذي قال: "لم أعاند الرؤية الإلهيّة" ، فإنّ الدعوة ليست دعوة. نتعجّب إذًا  كيف يدعو يسوع بهذه الطريقة لكنّها طريقته في التعامل معنا في الدعوة الكهنوتيّة وفي أمور أخرى غير الدعوة الكهنوتيّة. يسوع يختار ولا يخيِّر، ويختار بقوّة مرّة واحدة ودفعة واحدة. اختياره أمر.
نتعجّب من يسوع كيف يدعو لكن بالمقابل نتعجّب من بطرس وبولس وسائر الرسل وغيرهم ممّن ذكرناهم وغيرِهم الكثيرِ أيضًا كيف تبعوا يسوع من دون تردّد ولا تساؤل تاركين كلّ شيء وجاهلين مَن هذا الرجل الذي يدعوهم وإلى ماذا يدعوهم وإلى أين يأخذهم.  لا شكّ أنّ شخصيّة السيّد المسيح كانت جذّابة بل ربّما ساحرة. بيد أنّ ذلك لم يكن كافيًا لاقتلاع الهاجس والقلق والشكّ من قلوبهم. نعلم من الإنجيل أنّ ما جرى لهم في اتّباعهم للربّ يسوع كان مغايرًا لتوقّعاتهم أو تطلّعاتهم أو أحلامهم حتّى إنّهم سألوه عن مصيرهم أكثر من مرّة ولم يكن جوابه في كلّ مرّة شافيًا. ومع ذلك تبعوه. تبعوه لأنّ دعوته لهم لم تكن الآن وهنا، لم تكن دعوتُه فقط كلمةَ "اتبعني" التي سمعها بطرس وبولس بصوت عالٍ، بل كانت دعوةً منذ زمن طويل واعتلنت الآن وهنا. وقد عبّر القدّيس بولس عن ذلك أوضح تعبير حين قال لأهل غلاطية عن دعوته: "لـمّا ارتضى الله، الذي فرزني من جوف أمّي ودعاني بنعمته، أن يُعلن ابنه فيّ لأبشّر به بين الأمم، للوقت لم أصغِ إلى اللحم والدّم ولا صعدت إلى أورشليم إلى الذين هم رسل قبلي بل سرت إلى بلاد العرب ثمّ رجعت إلى دمشق" . هذا ما سبق وقاله النبيّ أشعيا أيضًا: "الربّ من البطن دعاني، من أحشاء أمّي ذكر اسمي". الذعوة لا تأتي من لا شيء. يهيّء الله لها في الصمت منذ تكوين المدعوّ. في البيت، في المدرسة، في الرفقة، في الدير، في الدرس، في الصلاة، إلى أن ينطق بها ويعلنها. لذلك يعلنها بأمر لأنّه عالم بسرائر من يدعو.
إتبعني. تبعه بطرس. قم وانطلق إلى دمشق. قام وانطلق. ومن هنا تبتدئ المسيرة مع يسوع، مسيرةٌ فيها مزيج من الفرح والحزن والوجع والسكينة والراحة والتعب والأمل واليأس والقلق والثبات والخوف والشجاعة والضعف والقوّة  والإخفاق والنجاح والنكوص والنهوض. مسيرةٌ وصفها الرسول بولس في رسائله وسمعنا شيئًا منها في رسالة اليوم. لكنّها مسيرة سمعنا في ختامها ما قاله بطرس للربّ يسوع: "يا ربّ أنت تعلم كلّ شيء، أنت تعلم أنّي أحبّك"، وقد كان في السابق قال له: "إلى من نذهب يا ربّ فإنّ عندك كلام الحياة؟"،  وسمعنا القدّيس بولس يصرخ من ناحيته: "من يفصلنا عن محبّة المسيح". بين اتبعني الأولى التي سمعها بطرس على شاطئ البحر واتبعني الثانية التي سمعها في الختام مسيرةٌ طويلة من التعلّم على الحبّ. نعم إنّ السير مع السيّد المسيح بملازمة متينة يعلّمنا أن نحبّ ويعلّمنا أن نحبّه هو أوّلًا لأنّه هو الذي أحبّنا أوّلًا وبذل نفسه من أجلنا يقول بولس. ولـيس إلّا بعد أن تيقّن يسوع أنّ بطرس يحبّه حبًّا حتّى النهاية أفضى به كما أفضى ببولس إلى الموت من أجله، حينئذ فقط قال له اتبعني. لم يُجرِ له فحصًا في اللاهوت والفلسفة، في الإله الواحد بثلاثة أقانيم، في يسوع المسيح الإله والإنسان معًا، في مريم الأمّ والبتول معًا، لم يجرِ هذا الفحص ليجعل منه هامةً للرسل بل أجرى له امتحانًا في المحبّة لأنّ "المحبّة لا تسقط أبدًا"، كما يقول بولس لأهل كورنثس.
اليوم وقد قطعنا شوطًا كبيرًا من المسيرة مع السيّد المسيح: الأبوان الفاضلان مروان سيدي وجان أبو شروش خمسةً وعشرين عامًا، ورفيقُ الدرب الأبُ الفاضل إلياس آغيا وأنا خمسين عامًا، قطعناها بما كان فيها من حلو ومرّ وموت وحياة وضعف وقوّة وتعب وراحة ونكوص ونهوض، نقف اليوم لنقول للسيّد المسيح أنت تعلم أنّنا نحبّك ولا شيء يفصلنا عن محبّتك. اليوم نسترجع الماضي لا لشيء إلّا لكي نرى ونعلن كيف درّبنا يسوع على الحبّ بتأنٍّ وصبر ورحمة ومحبّة، لكي نرى ونعلن أنّ مهما اعتورها ممّا هو خلاف ذلك. 
الحياة مع الربّ يسوع جميلة. المطلوب أن نعطي أنفسنا الفرصة والوقت لكي نسير مع يسوع  ونصادقه، لكي نلازمه كما لازمه بطرس وبولس. المطلوب أن نعرف يسوع لا أن نتعرّف عليه كما نتعرّف على الأشياء أو كما نتفرّج عليها. علينا أن نسير المسافة بين اتبعني الأولى واتبعني الثانية. عندئذ نشعر كم أنّ السير مع يسوع هو سعادة ونصرخ مع بطرس: "إلى من نذهب يا ربّ فإنّ عندك كلام الحياة؟".
نحن اليوم، كما في كلّ يوم، نقف ولو بشكل يوبيل، بشكلٍ غير المعتاد خاصٍّ ومميّز وعلنيّ، لنشكر الله على هذه المسيرة، مستغفرين كلّ من أسأنا إليهم وغافرين لكلّ من قد يكون أساء إلينا. اليوبيل هو وقفة لنشكر الله على الفرح الذي حصلنا عليه برفقة يسوع، على السلام، على الرجاء، على المحبّة، على اللطف، على الجمال الذي تمتّعنا به. اليوبيل هو يومٌ نعلن فيه أنّ الحياة مع يسوع حلوة وجديرة بأن يُقدم المرءُ عليها، فإذا ما دعانا الربّ يسوع فلنكن مثل بطرس وبولس وسائر الرسل الذين قلبوا العالم على قلّة عددهم بقولهم للسيّد المسيح أنت تعلم أنّنا نحبّك وأنّ لا شيء يستطيع أن يفصلنا عنك.
الشكر لجميع الذين رافقون وكانت لهم يد في تهيئتنا لنقول نعم للربّ يسوع، خصوصًا أهلنا الأحياء والأموات والجمعيّةَ البولسيّة التي نسأل الله أن ينميها ويقدّسها. الشكر للسيّدة العذراء التي ترافق وتصون كلّ كاهن كما فعلت ليوحنّا الحبيب والرسل. نطلب إليها أن تستمرّ في مرافقتها لنا في ما بقي من هذه المسيرة حتّى نقف أمام منبر السيّد المسيح ونؤدّي له جوابًا حسنًا. والشكر الشكر لله تعالى الذي دعانا وأنعم علينا بسرّ الكهنوت وقدّرنا على أن نحتفل بهذه الليترجيّا الإلهيّة التي الاحتفالُ بها أجمل احتفال يقوم به الكاهن من بين جميع الاحتفالات، يشكر به الله على عمل الخلاص الذي أجراه بموت ابنه الوحيد يسوع المسيح وقيامته من بين الأموات. الشكر لكم أيّها الأحبّاءُ الآتون من بعيد ومن قريب على مشاركتكم في هذه الليترجيّا. بارككم الله. الشكر الجزيل لغبطة أبينا السيّد البطريرك يوسف يونان الجزيل القداسة والسادة الأساقفة الأجلّاء. ومع الشكر نهنّئ الجمعيّة البولسيّة بعيد شفيعها القدّيس بولس وكلَّ من يحمل اسم بطرس واسم بولس. كلّ عام وأنتم بخير.

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o