Jun 08, 2023 8:47 AM
مقالات

لبنان المغلوب.. فمن الغالب؟

لبنان مصاب بوباء خاص، أين منه كورونا والطاعون والجدري، وباؤنا اسمه “التوافق الإنتخابي”، كانوا قد اخترعوا له لقاحاً استباقياً-وقائياً سنة 1958 اسمه “لا غالب ولا مغلوب” لكن اللقاح فشل في تحصين الجسد اللبناني، وبدل الشفاء تفشى الوباء، وأصيب به الشعب أيضاً بعد تسريبه المتعمّد من مختبر تحالف منظومة سلاح الغدر والمال القذر.

وباؤنا لا يصيب بقيّة البشر، لأنه من صنع المنظومة إياها التي استنسخت له لقيطاً من رحمها وزرعته في العقول الجاهلة اسمه قانون الإنتخاب الخبيث الذي صار كما والده التوافقي علة وراثية تمترست في الجينات، التي تولت مهمة رفض كلّ صحيح عاداه.

وباء التوافق الإنتخابي يجوّف التنافس الديمقراطي، ويفرض على نواب “الأمة” توزيع المكاسب بين نواب الشعوب-الطوائف الـ 18 بما يسمح لتحالف منظومة سلاح الغدر والمال القذر بالاحتفاظ بالمكاسب التي حققتها بفرض القهر، للحؤول دون الالتحاق بالممارسة الحقيقية للديمقراطية كما هي معمول بها في كل دول العالم، من أرقى الديمقراطيات إلى أعتى الديكتاتوريات.

في أميركا، مثلاً، لا يوجد توافق انتخابي بين الـ 195 شعباً التي تتكون منها الأمة الأميركية لاختيار رئيس للجمهورية، فلماذا يفرض التوافق الإنتخابي على الشعوب الـ 19 (بإضافة العلمانيين) المكونة للأمة اللبنانية، التي يقسم رؤساؤنا يمين الولاء لها والدفاع عنها وهي أمم لا أمّة؟

لماذا يتنافس المرشحون الأميركيون للرئاسة باستفزاز شديد وتحدٍّ مباشر، ولا يعتبر تنافسهم تعبيراً عن عيب سلوكي-أخلاقي-ثقافي وفق سلّم قيم التوافق الانتخابي.

في سوريا، أيضاً يتنافس المرشحون للرئاسة، ولا يتوافقون على شخص رئيس، وتنتخب الشعوب السورية من تختاره من بين “المتنافسين” الذين يديرهم مقود النظام، فإذا نزحوا انتخبوا من شردهم، وإذا لجأوا اقترعوا لمن اضطهدهم ليضمنوا مبدأ عودتهم يوماً وفق قاعدة نحس تعرفه مضمون خير من سعد تتعرف عليه… ولا يمون.

في جارتنا قبرص، التي تبعد عنا 20 دقيقة جواً، لا يتوافق القبارصة على اختيار رئيس، بل يتنافس المرشحون وينتخب القبارصة رئيسهم بقناعتهم ولا يعتبر المتنافس “كيدياً أو مستفزاً، أو متحدياً”، كما في لبنان العظيم الفهيم…

في تركيا، مثلاً، لم يتوافق أي مرشح مع أي مرشح بل بلغ التنافس أشده، وفاز من فاز بالتنافس، هو شرف وانتصار للشعب التركي أساساً كما لمن فاز وأيضاً لمن خسر، لأنه خسر بالتنافس ولم يستبعد بوضاعة وباء التوافق على المحاصصة.

أما نحن “شعب لبنان العظيم”… الفهيم، فما زلنا نتمسك بنير عبودية التوافق الانتخابي كما تتمسك الجاموسة بنير الناعورة، فإذا فُكّت عنه تبقى تدور مكانها حتى يأتي من يأخذها إلى حيث يقدّم لها ما تمّ التوافق على أنه حصتها مما خصص لها ولأمثالها من الماء والعلف.

هل الشعب اللبناني مصاب بمتلازمة ستوكهولم (Stockholm Syndrome)التي ترمز إلى تعاطف المخطوف مع خاطفه أو تعاطف الضحية مع جلادها أو إدمان التعيس لتعاسته؟

بما أنّ لبنان ليس بلداً ديكتاتورياً مباشراً، أقله في ما خص دستوره المكتوب، لذلك من المستبعد أن يكون مصاباً بمتلازمة ستوكهولم التي يؤدي فيها مشهد ممارسة القسوة تأثيراً نفسياً مباشراً في تأسيس التعاطف والطاعة وصولاً إلى التفاخر بعشق الضحية للطاغية.

لذلك يصح التساؤل: هل لبنان مصاب بمتلازمة جاموسة الماء (water Buffalo Syndrome) التي نجدها عادة في دول الإقطاعيات الزراعية ذات المياه الوفيرة التي تعيش فيها هذه الجواميس وتكتسب منها الشعوب التي تعتاش من منتوجها ميزات صبرها وطاعتها لأسيادها كما في أرياف مصر أو أهوار العراق، مثلاً لا حصراً.

صحيح لا يوجد في لبنان جواميس إلا بما ندر، لكن طاعة الإقطاع متجذرة في الوجدان اللبناني ومع تطور الإقطاع العقاري- الاجتماعي إلى إقطاع سياسي- ميليشياوي- سلطوي، تفشت ظاهرة متلازمة جاموسة الماء في المجتمع متخفية برداء سياسي- خدماتي- دفاعي- أمني- رهطوي (قطاني بشري) ما أنتج أقذر وأخطر اللقطاء، الذي صار بعضنا يفاخر بالإنتساب إليه والتلحّف بردائه والتلطّي بمظلته وهو… “التوافق الإنتخابي”.

سفاح ماخور الديمقراطية التوافقية والتوافق الانتخابي أنتج وليداً لقيطا على شكل قانون انتخاب خبيث فرض اللوائح المقفلة التي سرقت من المواطن اللبناني حق اختيار مرشحه وزوّرت إرادته وجعلته، إمعاناً في الخيبة، يصفّق لفشله ويفاخر بالإنتماء إليه، ويتطوع في قوة من مرتزقة شذاذ الآفاق للدفاع عنه.

السؤال هو: هل ستنتج متلازمة جاموسة الماء رئيساً وحكومة للبنان، كما سبق أن أنتجت؟

الإنتاج السابق لهذا الوباء كان قبل الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية وضمانة صينية. والإنتاج السابق لهذا الوباء كان قبل مهرجان الإصلاح المالي السعودي الكبير في فندق الريتز الشهير بإشراف ورعاية سمو ولي العهد محمد بن سلمان، والإنتاج السابق لهذا الوباء كان قبل عودة قطر إلى مظلة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والإنتاج السابق لهذا الوباء كان قبل المصالحة التركية لدول الخليج العربية ومصر، والإنتاج السابق لهذا الوباء كان قبل استعادة بشار الأسد إلى حضن جامعة الدول العربية وتطبيع العلاقة معه وفق معادلة “خطوة مقابل خطوة” التي أنهت، إلى غير رجعة، مسار الوباء والموبوئين الذين يستميتون في مناوراتهم علّهم يحتفظون بجزء مما اكتسبوه… يوم كان الوباء هو الدواء.

لبنان الوباء إنتهى، وآخر تجلياته هي تهمة أخلاقية مشينة لسفير المنظومة المعتمد لدى فرنسا، فهل سيبقى معتمداً، أم ستعلنه فرنسا شخصاً غير مرغوب فيه (Persona Non Grata)، أم هل سيستدعيه لبنان ويجمّد عضويته في السلك الدبلوماسي إلى حين انتهاء “التحقيق اللبناني” في التهمة التي نسبت إليه ويتوقع صدور القرار الظني مع بداية القرن 21 الهجري، بإذن الله، أم سينتهي مع انتهاء لبنان الكبير وفضائحه وولادة “واقع جديد” من المبكر توقع أبعاده، مع أن أسسه المطلوبة باتت واضحة:

لبنان يحتاج إلى غالب ومغلوب كما هي سنّة الحياة، فليغلب من يغلب وليحكم البلد، ومن يخسر يستطيع أن يمارس واجب المعارضة. هكذا أصبحت أميركا دولة كبرى موحدة وقوة عظمى عندما انتصر الشمال على الجنوب في الحرب الأهلية ووقّع قائد قوات الجنوب المهزوم الجنرال روبرت إدوارد لي وثيقة الإستسلام في 9 نيسان 1865 وامتطى حصانه وغادر من دون أن يبيد الشمال الجنوب.

لحسن حظ أميركا أنها لم تنزل عليها لعنة “لا غالب ولا مغلوب” ولم تصب بلعنة التوافق الإنتخابي، لذلك توحّدت واستوعبت 195 شعباً، فيما بقي لبنان عاجزاً عن استيعاب شعوبه الـ 19 في أمة.

لبنان اللاغالب ولا مغلوب، إن لم يكن قد انتهى، فيجب أن ينتهي، كي يبقى “لبنان ما”. وإلّا… وداعاً للبنان الواحد الذي لن يحلّ مكانه فقط لبنانان، بالإذن من الراحل دولة الرئيس صائب سلام صاحب شعار “لبنان واحد لا لبنانان”، خصوصاً أن بعض المصابين بمتلازمة جاموسة الماء ما زال يعتقد أنّ بإمكان الأسد أن يستعيد من العرب وصايته على لبنان…

لذلك على السياديين إذا أرادوا الإحتفاظ بـ “لبنان ما” البحث جدياً عن “بدائل جغرافية وإقتصادية ومالية وسياسية” لمعضلة احتكار مصير ومسار لبنان” الذي تعوّد حاكم سوريا على ممارسته وفق مبدأ “مقايضة الخدمات” مع النظام العربي، السابق لمعادلة خطوة مقابل خطوة المعرضة للإنهيار إذا اهتزت أي خطوة.

محمد سلام - هنا سلام

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o