Sep 09, 2022 8:53 AM
خاص

إليزابيت الثانية...نهاية عصر...

يارا أبي عقل

المركزية - ... ودقت الساعة التي خافها البريطانيون طويلا... رحلت الملكة التي يصح وصفها بـ "التاريخية"، إليزابيث الثانية، في واحدة من أكثر اللحظات السياسية والاقتصادية حراجة لبلادها وللقارة العجوز والعالم... هذا العالم نفسه الذي وقع بكامله تحت هول صدمة الغياب، وإن كان متوقعا، لمن لم تقو عليها سبعة عقود من المتغيرات الصغيرة والكبيرة في عالم لا يتوقف عن الدوران والحرب والسلم والتطور. دول كبيرة سقطت.. ظروف كثيرة تبدلت... رؤساء كثيرون حكموا، وآخرون سقطوا... وثابتة وحيدة: الملكة إليزابيت الثانية صامدة على عرش بريطانيا...

الجميع يعرفون كيف بدأت قصة الملكة صاحبة العهد الأطول على عرش واحدة من أهم الدول والاقتصادات الأوروبية. لكن البعض لم يكن يتوقع أن يسكت قلب الملكة المولعة بالفروسية فجأة، وتخونها صحتها على حين غرة، دافعة الشعب البريطاني إلى حافة اليتم لأول مرة منذ سبعين عاما بالتمام والكمال.

لا شك في أن سبعين عاما في رزنامة الدول ليست "كلمة بالتم" . إنها مدة كافية لتقلب حياة شعوب، ولتتيح لبعض من يبتسم لهم الحظ والقدر أن يتركوا بصمات على دروب هذه الشعوب وهي حال الملكة إليزابيت التي يلقي العالم نظراته الأخيرة عليها قبل الوداع المنتظر بعد عشرة أيام.

ذلك أن الأميرة الجميلة صاحبة الابتسامة المفرحة بلغت العرش البريطاني (الذي يخول صاحبه حكم دول الكومنولث) عن طريق الوراثة بعد وفاة والدها الملك جورج عام 1952. محاطة بوالدتها "الملكة- الأم (التي توفيت عن 103 أعوام سنة 1999)، وتحت أعين رئيس الوزراء التاريخي ونستون تشرشل، أحد أبطال الحرب العالمية الثانية، إنطلقت إليزابيت في حكمها، متعهدة أمام الشعب البريطاني بأن "تكرس حياتها سواء كانت قصيرة أو طويلة" لخدمة هذا الشعب. وهي مهمة نجحت في تحقيقها، مع العلم أن النظام السياسي البريطاني يعطي مقاليد الحكم الفعلية في البلاد لرئيس الوزراء. حتى بات من الشائع الكلام عن أن الرؤساء والزعماء الضعفاء "يملكون ولا يحكمون على غرار ملكة بريطانيا".

وإذا كان في ذلك شيء من الحقيقة، فإن هذا لا ينفي أن الملكة المحبوبة، على إطلاع بكل التفاصيل السياسية، بفعل اللقاءات الأسبوعية التي تجمعها برئيس الوزراء . وقد قلّبت إليزابيت صفحات كثيرة خطها 15 رئيس حكومة عاصرتهم من ونستون تشرشل وحربه العالمية الثانية إلى المرأة الحديدية مارغريت تاتشر، مرورا بتوني بلير الذي كان الشريك الند للرئيس الأميركي السابق جورج بوش في إعلان الحرب على العراق، وصولا إلى دافيد كاميرون الذي يقف وراء استفتاء البريكسيت الذي أخرج البلاد من الاتحاد الأوروبي وأغرقها في سلسلة من الأزمات السياسية والفضائح التي أقصت بوريس جونسون عن 10 داونينغ ستريت (مقر رئاسة الحكومة) وجعلت كرة النار تنتقل أخيرا إلى المرأة الحديدية الثانية، المحافظة ليزا تاس، التي تسلمت مهامها رسميا قبل يومين، ونالت حظوة أن تكون آخر شخصية سياسية قابلتها الملكة الراحلة..

هكذا سلمت إليزابيت الأمانة السياسية إلى الرقم الصعب الجديد في المشهد البريطاني الذي عاد إلى الضياع بعد لحظة فرح وقفت وراءها الملكة إليزابيت التي احتفلت في حزيران الماضي باليوبيل الماسي لتوليها العرش، وفاجأت الناس بالمشاركة في بعض احتفالات المناسبة التي قد لا تتكرر قبل عقود مقبلة، لتبدو هنا أيضاوكأنها تودع شعبا أحبها كثيرا، شانه شأن كثير من قادة العالم الذين لم يمروا مرور الكرام على دنيا الفناء هذه. فصاحبة السمو الملكي عاشرت 14 رئيسا أميركيا، وعددا من بابوات الكنيسة الكاثوليكية، ما حول قصر بكنغهام، الذي سكنته مع حبها الأول ورفيق دربها، لا بل ملاكها الحارس الأمير فيليب (الذي توفي عام 2021 بعد قرن من الزمن على قيد الحياة) مقصدا لكثير من الشخصيات كبطل السلام العالمي والمساواة نيلسون مانديلا والثنائي الرئاسي الاستثناني جون وجاكلين كينيدي، كما الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون ونظيره الفرنسي جاك شيراك، حامل لبنان في قلبه.

على أن النجاح الباهر الذي عرفته إليزابيت على المستوى الشعبي، لم يكن حليفها في عالمها الصغير الخاص. ذلك أن نوعا من القدر الأسود لاحق أفراد عائلتها، وإن كان هذا لا ينفي، بحسب كثير من المراقبين أن المسؤولية ليست على القدر وحده، بل على إليزابيت أيضاـ، بوصفها ربان السفينة العائلية. وهو ما ينطبق على الأميرة ديانا، الزوجة الأولى للأمير تشارلز، التي تجاوزت القصر الملكي وبروتوكولاته والتزاماته لتتحول عن حق أميرة القلوب والشعوب. أمر قد لا يكون أعجب الملكة كثيرا، وهي التي كانت على علاقة متوترة مع الأميرة التي لم يدق قلب زوجها لها بقدر ما دق لكاميلا باركر على طريقة "نقل فؤادك حيث شئت من الهوى... ما الحب إلا للحبيب الأول" وتقول الحكاية العالمية الحزينة إن ما يفترض أن يكون قصة حب بين أمير وأميرة لم تنته بالسعادة الأبدية كما في كتب الأطفال، بل إن الطلاق وقع بين الطرفين عام 1992، قبل وفاة ديانا بعد 4 سنوات في حادث سير لا يزال لغزه عصيا على الكشف حتى اللحظة، في باريس، مع العلم إن واحدة من الأساطير الكثيرة التي حيكت حول المأساة تفيد بأن الملكة كانت على علم بالحادثة التي أودت بحياة ديانا وحبيبها محمد الفايد.

وبينما عاد تشارلز إلى كاميلا واقترن بها عام 2005، كان ولداه ويليام وهاري يفتقدان حنان الأم، إلى أن ابتسم لهما الحب، ودخلت كايت ميدلتون حياة الأبن البكر. وهنا مكمن التجدد الذي أقدمت عليه الملكة إليزابيت، حيث أنها لم تقف في وجه سعادة حفيدها المرشح لمنصب الملك يوما ما... وافقت إليزابيت التي واكبت وصول الانسان إلى سطح القمر ودخول الانترنت والتكنولوجيا حياة البشر، على أن تخرق إمرأة من عامة الشعب أسوار حياة الطبقة الملكية والأرستقراطية. على أن الأهم يكمن في انها وافقت على زواج حفيدها الثاني من الممثلة ميغان ماركل، المرأة الأميركية المطلقة، مع العلم أن الثنائي عاد وتخلى عن الحياة الملكية، مفضلا العيش بحرية لا يزال كثيرون يفتشون عنها.

في الفصل الأخير من حياتها هذا بدت الملكة كمن يترك رسالة تجدد وحياة واستمرارية لعائلة لطالما وسمها الناس بالغرق في تقاليد يراها البعض بالية وقد أكل عليها الدهر وشرب... لكن كل هذا في واد والموت في واد آخر.. فهو لا يأبه  لا للزمن ولا للعروش ولا للمناصب والاستمرارية... إنه يأتي ولا يطرق باب أحد... ولا حتى ملكة بريطانيا العظمى... لا ينتظر أحدا ولا يأبه للفراغ الذي تكرهه الطبيعة، والذي ملأته بريطانيا سريعا: في الثالثة والسبعين من العمر، وصل الملك تشارلز الثالث إلى العرش البريطاني... ماتت الملكة... عاش الملك..

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o