Mar 24, 2022 4:30 PM
مقالات

سقوط الحياد الدولي في ساحة المعركة

كتب الصحافي المتخصص في الشؤون الدولية شادي شلالا من جنيف:

منذ العام ١٨١٥ حافظت سويسرا على نهج الحياد الإيجابي والعسكري الذي ينص على ألا تشارك في أي نزاع مسلح. وورد في دستورها بأن حياد الدولة حياد ذاتي، دائم، ومسلح، يضمن أمن الدولة الخارجي ويساهم في تعزيز السلام العالمي. وقد شكل الحياد جزءاً أساسياً من تاريخ وتراث سويسرا التي تحتضن عددا كبيرا من المنظمات الدولية غير الحكومية ومقراً للأمم المتحدة يستضيف غالبية مفاوضات السلام وظلت تعتبر ساحة محايدة تستقبل من دون تمييز أطراف النزاع للحوار والتفاوض، كما تحتضن مصارفها الكثير من رؤوس الأموال كونها جنة ضريبية آمنة.

تعرض هذا الحياد الى أصعب الاختبارات لا سيما خلال الحروب الكونية وكان الاختبار الأصعب خلال الحرب العالمية الثانية بحكم موقعها بين دول الحلفاء ودول المركز المتحاربة، لكنها تشبثت بحيادها الى حد تفخيخ جسور تربط بينها وبين دول الجوار بالمتفجرات في ما سمي حينها بfortress mentality  او عقلية الحصن .

بيد أن التطورات الأخيرة  في أوروبا دفعت بسويسرا الى إعادة النظر في شكل هذا الحياد والى تكييفه مع واقع دولي متحرك، ومع اندلاع حرب أوكرانيا بنسختها الثانية عمدت الى تبني العقوبات الأوروبية على روسيا ، واعتبرت أن تعاونها مع حلف الشمال الأطلسي ومع الاتحاد الأوروبي عبر فرض العقوبات، لا يمس مبدأ الحياد وقد عبر سفير سويسرا الى حلف الناتو فلاديمير براندت في مقابلة لسويس انفو بتاريخ ١١ آذار ٢٠٢٢ عن ذلك بالقول : "إن سويسرا متمسّكة بحيادها واعتماد العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي لا يُغيّر من ذلك شيئا"  وأضاف بلغة ديبلوماسية خالصة:" إن سياسة الحياد السويسرية تُبقي على هامش للمناورة يراعي التطوّرات الاستثنائية المحتملة للنزاع. غير أن الرئيس السويسري ايغناسيو كاسيس قطع الشك بالقول إن بلاده لم تتبن عقوبات على روسيا عام ٢٠١٤ بسبب الحياد، وأقرّ بأنها عبر تبنيها العقوبات تتنازل أقله موقتا عن هذا الموقف السياسي النادر.

تحولت اذاً نظرية الحصن الحيادي المنيع وأصبح الحياد الثابت مطاطياً متحركا يتأرجح بين الحياد التام والمطلق، وبين مجاراة مواقف بعينها تنزع عن سويسرا صفة الحيادية وتسمح لها باستخدام تلك السياسة كالمعطف ترتديه وتخلعه حسب الطقس السياسي والاستراتيجي من دون حتى اللجوء الى استفتاء كما هي العادات الديمقراطية في البلاد التي ما تزال غالبية ٩٦ في المئة من مواطنيها تدعم ميزة الحياد.

ايرلندا تنهي بدورها مئة سنة من الحياد؟

في العلاقات الدولية لجأت جمهورية ايرلندا منذ الثلاثينات الى خيار الحياد وقد تباينت طبيعة الحياد الأيرلندي مع مرور الوقت وتغيّر الظروف، من دولة لا تحارب في الحرب العالمية الثانية الى دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، صديقة لحلف شمال الأطلسي من دون أن تنضم اليه.

جعلت سياسة الحياد العسكري التقليدية التي اعتمدتها ايرلندا جواز السفر الإيرلندي في طليعة جوازات السفر في العالم وموضع افتخار الإيرلنديين الذين تمايزوا عن جيرانهم اللدودين في بريطانيا أو حتى في ايرلندا الشمالية التي تعتبر جزءاً من المملكة المتحدة لكن مشاركتها في وكالة الدفاع الأوروبية وبعثات إنفاذ السلام تحت مظلة الاتحاد الأوروبي غيرت قليلاً من هذا المفهوم.

في الثاني والعشرين من فبراير ٢٠٢٢ نشرت إيرلندا كتابها الأبيض أو ما يعرف بالتقرير الأمني الدفاعي للبلاد خلصت من خلاله الى "وجوب الاهتمام بشكل استثنائي بسياسة الدفاع الوطني وبتعزيز قواتها وزيادة ميزانية الدفاع، ولفت التقرير الى: "الظروف الدولية المقلقة للغاية" والتي تحتم على الجزيرة الاعتراف بأهمية الدفاع والأمن الذاتيين.

 وفي خطوة مفاجئة، دعمت ايرلندا العقوبات ضد روسيا، واعتبر رئيس الوزراء الإيرلندي مايكل مارتن أن غزو روسيا لأوكرانيا اضطر بلاده إلى "التفكير" في سياستها الحيادية طويلة الأمد، على الرغم من أن التقرير العسكري السابق يبيّن أنها لم تنتظر الحرب الروسية لتفكر بذلك، وأضاف أن بلاده ليست محايدة فيما يتعلق بما يحدث في أوكرانيا، من دون أن يستبعد احتمال الانضمام الى حلف الناتو في المستقبل وان كان اعتبر ان تلك المناقشات مؤجلة ليوم آخر.

 

 

تقوم ايرلندا بتسهيل عمل ما سمي بآلية السلام الأوروبية، القاضية بتزويد ونشر "أسلحة فتاكة" في أوكرانيا لص الجيش  الروسي وتقول حكومتها انه يصعب اليوم خلال الأحداث الجارية وبين ليلة وضحاها، تغيير سياسة قائمة منذ فترة طويلة .

فنلندا الحبل على الجرار

لم يكن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو أمرًا وارداً لكن السلطات أعلنت أن تحولاً في الرأي العام دفعها الى التفكير جدياً في الانضمام للمنظومة العسكرية الأطلسية. وبعيداً مما قد تعنيه استطلاعات الرأي، بيّن استطلاع نُشر في الثامن والعشرين من فبراير أن غالبية السكان 53٪ يؤيدون الانضمام إلى حلف الأطلسي. وزادت هذه النسبة منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا فأظهر استطلاع ثانٍ أجري في الرابع عشر من آذار أن التأييد للانضمام إلى حلف الناتو قفز مرة أخرى إلى 62٪. ويبدو أن رئيسة حكومة فنلندا سانا مارين عادت الى القول الفنلندي المأثور: "إن الحرب لا تحدد من يفوز ومن يخسر بل تحدد من يبقى ومن يزول" وفي خطوة غير مسبوقة، أعلنت في 28 فبراير أن فنلندا ستزود أوكرانيا بالأسلحة لمحاربة القوات الروسية.

اغلاق باب الحياد

في تشرين الثاني عام ١٩١٥ نشرت جريدة "المواطن الأيرلندي" التي بدأت بالصدور عام ١٩١٢ في دبلن على صدر صفحتها الأولى قولاً مجهول المصدر بأن "الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب " وكانت الجريدة تركز على حق المرأة وحقوق العمال والعاملات إضافة الى حق ايرلندا في تقرير مصيرها بشكل مستقل.

 توقفت الجريدة عن الصدور عام ١٩٢٠، الا أن عنواناً افتراضياً للحرب بين روسيا وأوكرانيا كان ليصدر اليوم بالخط العريض بعيداً من الضحايا المدنيين وغير المدنيين: "إن الحياد هو الضحية الأولى لهذه الحرب" مع ما يعنيه ذلك بالنسبة الى المستقبل وخطورة وفداحة هذه التضحية، التي تجعل أيضاً احتمال ضم أوكرانيا الى معسكر الحياد أمراً شبه مستحيل بما أن هذا المعسكر الى اضمحلال وربما إلى أفول.

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o