Feb 05, 2020 1:00 PM
اقتصاد

"الحاجة ملحّة لتنظيم العلاقة بين المصارف وزبائنها في مناخ غير نمطي"
التقريــر الاقتصــادي لـ"بنــك عــودة" عن العـــام 2019:
مخـــارج الأزمة مــا زالت ممكنــة إذا صدقت نوايـا الإصـلاح

المركزية- لفت التقرير الاقتصادي لبنك عودة عن العام 2019 إلى أن "اعتماد وتطبيق سياسات تستجيب للمطالب الشعبية على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة بالترافق مع إطلاق عجلة الإصلاحات التي طال انتظارها، ما زالت قادرة على احتواء الاختلالات القائمة وعناصر الهشاشة في الاقتصاد اللبناني، وتوفير دعم نسبي للوضع المالي والنقدي، وتأمين الانتقال السلس من حقبة الوهن الاقتصادي إلى حقبة التحسن التدريجي في مستوى المعيشة بشكل عام"، مشيراً إلى أن "الأرقام ما زالت قابلة للاحتواء إذا صدقت النوايا، وفي حال أُطلقت عجلة الإصلاحات الهيكلية بشكل ملائم، في إمكان لبنان أن ينتقل تدريجياً من حقبة الوهن الاقتصادي إلى حقبة الاحتواء التدريجي للمخاطر والتهديدات كشرط أساسي لأي نهوض اقتصادي منشود في المدى المتوسط إلى الطويل"، وشدد على أن "الحاجة الملحّة اليوم هي تنظيم العلاقة بين المؤسسات المصرفية وقاعدة زبائنها في ظل مناخ غير نمطي".

نَص التقرير: وأورد التقرير ما يأتي: "إن الاقتصاد اللبناني قد انتقل إلى وضعية الركود في العام 2019، مع انكماشٍ صافٍ في عدد من قطاعات النشاط الاقتصادي، وخصوصاً في أعقاب المستجدات السياسية التي اندلعت في 17 تشرين الأول. عليه، فإن القطاعات الدفاعية في الاقتصاد اللبناني بدأت تفقد زخمها، بينما دخلت القطاعات الواهنة خانة الركود. هذا وفي حين أن الاستهلاك الخاص لا يزال يشهد منحىً مقبولاً إلى حد ما، غير أن أداءه جاء أضعف من ذلك المحقق في السنوات السابقة. إلا أن أكثر ما يثقل النمو الاقتصادي هو وهن الاستثمار الخاص، لاسيما في ظل تأجيلٍ إو إلغاء للقرارات الاستثمارية الخاصة.

إن تباطؤ نشاط الاقتصاد الحقيقي يعكسه جيداً أداء المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن مصرف لبنان خلال العام 2019. إن هذا المؤشر، وهو متوسط مثقل لعدد من مؤشرات القطاع الحقيقي، قد بلغ متوسطاً قدره 295.0 خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2019، أي بتقلص سنوي نسبته 4.3%، ما يشير إلى أن الاقتصاد الوطني بات على شفير الركود. مع الإشارة إلى أن المؤشر الاقتصادي العام كان قد سجّل متوسط نمو بنسبة 3.7% خلال الفترات المماثلة من السنوات الثلاث السابقة. في الواقع، إن أداء القطاع الحقيقي للاقتصاد الوطني قد شهد مزيداً من التردي في الأشهر القليلة الأخيرة من السنة أي عقب التطورات السياسية الأخيرة.

إن أداء مؤشرات القطاع الحقيقي يعكس بدوره الأداء الماكرو اقتصادي الواهن. فمن أصل 11 مؤشراً للقطاع الحقيقي، تراجعت عشرة مؤشرات بينما ارتفع مؤشر واحد خلال العام 2019 بالمقارنة مع العام 2018. إن المؤشر الوحيد الذي سجّل نمواً إيجابياً هو الصادرات (+26.5%). أما من بين المؤشرات التي سجلت نسب نمو سلبية نذكر عدد مبيعات السيارات الجديدة (-33.4%)، مساحة رخص البناء الممنوحة (-32.6%)، تسليمات الإسمنت (-30.9%)، حجم البضائع في المرفأ (-18.3%)، قيمة المبيعات العقارية (-15.9%)، قيمة الشيكات المتقاصة (-14.4%)، الواردات (-3.7%)، عدد المسافرين عبر مطار بيروت (-2.4%)، إنتاج الكهرباء (-1.9%) وعدد السياح (-1.4%).

على صعيد القطاع الخارجي، سجّل ميزان المدفوعات عجزاً بقيمة 4,4 مليار دولار في العام 2019، في ظل تراجعٍ صافٍ في تدفقات الأموال الوافدة التي لم تكن كافية لتغطية العجز التجاري خلال تلك الفترة. وفي ما يتعلق بالتجارة الخارجية، ارتفعت الصادرات بنسبة 26.5% خلال العام 2019، مدعومةً بحركة التصدير البرّي في حين تراجعت الواردات بنسبة 3.7% خلال الفترة. في المقابل، تقلّصت الاحتياطيات الأجنبية لدى مصرف لبنان بقيمة 2.4 مليار دولار في العام 2019، وذلك في ظل موجة التحويلات الصافية من الليرة اللبنانية إلى الدولار، بالإضافة إلى تسديد مصرف لبنان سندات "يوروبوندز" استحقت خلال العام المنصرم.

أما على صعيد القطاع المصرفي، فقد تقلّصت الودائع المصرفية بقيمة 15,4 مليار دولار في العام 2019، أي بما بعادل نسبة 8.8%. ويُعزى هذا التقلّص إلى تراجعٍ في الودائع بالليرة اللبنانية بقيمة 13.1 مليار دولار خلال تلك الفترة، في حين تقلّصت الودائع بالعملات الأجنبية بقيمة 2.3 مليار دولار. عليه، فإن نسبة دولرة الودائع قد ارتفعت إلى أعلى مستوى منذ أحد عشر عاماً لتصل إلى 76.0% في نهاية كانون الأول 2019. أما على صعيد معدلات الفوائد، فقد تراجع متوسط معدل الفوائد على الودائع بالليرة إلى 7.36% في كانون الأول 2019 (مقابل 8.30% في نهاية العام 2018)، في حين بلغ متوسط معدل الفوائد على الودائع بالعملات الأجنبية 4.62% (مقابل 5.15% في نهاية العام 2018). أخيراً وليس آخراً، شهدت مردودية المصارف اللبنانية تقلصاً بنسبة تقارب 50% في العام 2019 في ظل ارتفاع الضريبة على الدخل من الفوائد وازدياد متطلبات اتخاذ المؤونات.

هذا وجاء أداء أسواق الرساميل اللبنانية كمرآة للوهن الاقتصادي في ظل تردٍ صافٍ في عامل الثقة بشكل عام. فعلى صعيد سوق الأسهم، انخفضت أسعار الأسهم المدرجة في بورصة بيروت بنسبة 16.9% في العام 2019، في حين انخفضت القيمة الإجمالية لعمليات التداول بنسبة 47.8% على أساس سنوي. أما على صعيد سوق سندات الدين، فقد اتسعت هوامش مقايضة المخاطر الائتمانية من فئة خمس سنوات بمقدار 1,649 نقطة أساس، وذلك من 770 نقطة أساس في نهاية العام 2018 إلى 2,419 نقطة أساس في نهاية العام 2019، ما يعكس تردياً واضحاً في نظرة السوق إلى المخاطر الائتمانية السيادية بشكل عام.

في ما يلي تحليل مفصّل لتطورات القطاع الحقيقي والقطاع الخارجي والقطاعين العام والمالي خلال العام 2019، في حين تتطرّق الملاحظات الختامية إلى تقييم معمّق للأولويات الماكرو اقتصادية في المدى المنظور.

1- السِّمات الظرفيّة

1-1- القطاع الاقتصادي الحقيقي

1-1-1-      الزراعة والصناعة: أداء سلبي للقطاعين

سجّل القطاعان الزراعي والصناعي في العام 2019 أداءً تغلب عليه الصفة السلبية. ذاك أن الصادرات والواردات الزراعية تراجعت وكذلك الواردات الصناعية.

ففي ما يخصّ القطاع الزراعي، تعرّضت الصادرات والواردات للضغط في العام 2019. إذ تراجعت الصادرات الزراعية بنسبة 2,3% بعدما كانت قد ازدادت بنسبة 12,0% في العام 2018، كما انخفضت الواردات الزراعية بنسبة 12,1% مقابل نموها بنسبة 6,5% في العام 2018.

أما القطاع الصناعي، فقد سجّل أداءً متفاوتاً. ذاك أن الواردات تراجعت قليلاً بينما زادت الصادرات. فالواردات الصناعية انخفضت بنسبة 2,3% في العام 2019 بعدما كانت قد ازدادت بنسبة 12,0% في العام 2018. في المقابل، ارتفعت الصادرات الصناعية بنسبة 29,1% بعدما كانت قد سجّلت نمواً بنسبة 3,1% في العام 2018.

إلى ذلك، تُظهر الأرقام المنشورة من قبل شركة "كفالات" أن القروض الممنوحة للمؤسّسات الصغيرة والمتوسطة بضمانة شركة "كفالات" بلغت 5,7 مليون دولار في العام 2019، أي بتراجع نسبتُه 86,1% على أساس سنوي. في الوقت ذاته، بلغ عدد قروض "كفالات" 51 قرضاً مقابل 313 في العام 2018.

يبقى أن القطاعين الزراعي والصناعي في لبنان لا يزالان ضحيّة الضبابيّة السياسية السائدة في البلاد، والتي تدفع باتّجاه تدابير ظرفيّة هشّة، تحرم هذين القطاعين من الاستفادة من إصلاحات ماكرو اقتصادية طال انتظارها.

1-1-2-     البناء: تباطؤ قطاع البناء للعام الثاني على التوالي

في العام 2019، تواصل الأداء السلبي للسوق العقاري اللبناني للسنة الثانية على التوالي، مع تراجع عدد الصفقات والمبيعات العقارية. ويأتي ذلك في ظلّ تردّي الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية جرّاء الضبابيّة السياسية السائدة، باعتبار أن العرض والطلب العقاريَّين يتأثّران كلاهما بأوضاع البلاد الإقتصادية.

وتُظهر الإحصاءات الرسميّة أن عدد المبيعات العقارية انخفض بنسبة 17,1% على أساس سنوي متراجعاً من 60,714 عملية في العام 2018 الى 50,352 عملية في العام 2019. أما عدد المبيعات العقارية للأجانب فانخفض بنسبة 18,2% ليبلغ 993 عملية في العام 2019. كذلك، انخفضت قيمة المبيعات العقارية في العام 2019 بنسبة 15,9% لتبلغ 6,839.2 مليون دولار. وقد شمل انخفاض قيمة المبيعات العقارية معظم المناطق، وبخاصة البقاع (-30,1%)، لبنان الشمالي (-26,0%) وكسروان (-25,8%). ونشير الى أن القيمة الإجمالية للمبيعات العقارية تحسّنت في شهر كانون الأول 2019، حيث سجّلت ارتفاعاً بنسبة 33,9% مقارنةً مع كانون الأول 2018، ما يعكس عودة الإهتمام بالقطاع العقاري نتيجة مشاكل السيولة الراهنة بعد الأزمة الأخيرة.

أما من ناحية العرض، فقد بيّنت الإحصاءات المتوافرة أن المساحة الإجمالية لرخص البناء الممنوحة حديثاً، والتي تشكّل مؤشراً على حركة البناء المستقبلية، انخفضت بنسبة 32,6% في العام 2019 عاكسةً التباطؤ المتواصل لحركة القطاع في الوقت الذي يؤخّر بعض المطوّرين العقاريّين أو يوقفوا أحياناً أعمال البناء في مشاريعهم، وخصوصاً في ظلّ عدم الإستقرار السياسي والإقتصادي الذي خيّم على الفصل الأخير من السنة الفائتة.

ففي الواقع، بلغت المساحة الإجمالية لرخص البناء الممنوحة حديثاً 6,081,333 متراً مربّعاً في العام 2019 مقابل 9,019,583 متراً مربّعاً في العام 2018، بعد تراجعٍ بنسبة 22,2% وبنسبة 4,1% على أساس سنوي في عامَي 2018 و2017 على التوالي. ويبيّن التوزّع الجغرافي لهذه الرخص أن الإنخفاض أصاب معظم المناطق، إلاّ أن مناطق جبل لبنان ولبنان الشمالي والنبطيّة والبقاع سجّلت أعلى نسب من التراجع في العام 2019 (-39,1% و–36,6% و-34,9% و-30,5% على التوالي). ولا يزال جبل لبنان يستأثر بحصة الأسد من مجموع مساحات الرخص الجديدة الممنوحة في العام 2019 (35,0%)، يليه لبنان الشمالي (20,3%) ثم لبنان الجنوبي (19,8%).

باختصار، من الواضح أن السوق العقاري اللبناني ظلّ يسجّل أداءً واهناً في العام 2019 بالرغم من التحسّن الطفيف لبعض مؤشّراته في شهر كانون الأول فقط. ويأتي ذلك في مناخ سياسي محلّي غير مؤاتٍ وفي غياب خيارات تمويلية كافية، ووسط تجاذبات جيوسياسية إقليمية متواصلة. فمزاج المستثمرين لا يزال متأثّراً بأجواء عدم اليقين السائدة.

1-1-3-     التجارة والخدمات: أداء متفاوت للقطاع الثالث في العام 2019

شهد قطاع التجارة والخدمات تراجعاً في أدائه بالنسبة الى السنوات السابقة، في ظلّ أوضاع سياسية واقتصادية معاكسة أضرّت بنشاط هذا القطاع.

فأرقام وزارة السياحة تُظهر أن عدد السيّاح انخفض بنسبة 1,4% في العام 2019 حيث بلغ 1,936,320 سائحاً مقابل 1,963,917 سائحاً في العام 2018. وقد شكّل السيّاح القادمون من البلدان الأوروبية والعربية القسم الأكبر من المجموع، أي ما يعادل 37,2% (720,421 سائحاً) و29,7% (574,352 سائحاً) على التوالي. بالتوازي، نشرت شركة "غلوبال بلو ليبانون" التي تسدّد قيمة الإعفاءات من الضريبة على القيمة المضافة للسيّاح على النقاط الحدودية، تقريرها عن العام 2019. وبحسب هذا التقرير، فإن قيمة المشتريات المعفاة من الضريبة على القيمة المضافة، والتي تعطي صورة إجمالية صحيحة عن النفقات السياحية، انخفضت بنسبة 1,8% في العام 2019، وذلك بخاصة نتيجة تراجعها بنسبة 40.6% على أساس سنوي في الفصل الرابع من السنة. ويُظهر التوزّع حسب البلدان أن الحصة الأكبر من هذا الإنفاق في العام 2019 كانت من نصيب رعايا المملكة العربية السعودية (14%)، تلاهم رعايا الإمارات العربية المتحدة (11%)، ثم الكويت (8%) وسوريا (8%)

هذا وقد سجّل أداء القطاع الفندقي تحسّناً طفيفاً من ناحية نسب الإشغال وتحسّناً في متوسط سعر الغرفة الواحدة ومتوسط مردود الغرفة المتوافرة. ففي الواقع، بلغ معدل إشغال فنادق العاصمة اللبنانية من فئتَي 4 و5 نجوم 65,2% في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2019 مقابل 64,6% في الفترة ذاتها من العام 2018. وسجّل متوسط سعر الغرفة الواحدة في فنادق بيروت ارتفاعاً كبيراً من 186 دولار الى 202 دولار على أساس سنوي. أما متوسط مردود الغرفة الواحدة المتوافرة، فارتفع بنسبة 10,0% على أساس سنوي ليبلغ 132 دولار مقابل 120 دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي. وقد احتلّت بيروت المرتبة الأولى من حيث تغيّر الأسعار في المنطقة، وفق المؤشّر الأخير هذا.

لقد تراجعت حركة المطار في العام 2019 في ظلّ التباطؤ المتمادي للنشاط الإقتصادي واستمرار التجاذبات السياسية إضافةً الى التطورات والأحداث الأخيرة، بحيث أظهرت إحصاءات مديرية الطيران المدني أن العدد الإجمالي للمسافرين (القادمين والمغادرين) انخفض بنسبة 2,4% في العام 2019. أما عدد الرحلات عبر المطار، فانخفض بنسبة 1,8% فيما تراجع حجم البضائع المشحونة جواً بنسبة 11,0% في العام 2019. وفي التفاصيل، انخفض عدد الرحلات الآتية بنسبة 1,8% ليبلغ 36,137 رحلة كما انخفض عدد الرحلات المغادرة أيضاً بنسبة 1,8% ليبلغ 36,142 رحلة في العام 2019.

على صعيد النقل البحري، تدلّ آخر الإحصاءات الصادرة عن إدارة مرفأ بيروت إلى انخفاض ايرادات المرفأ بنسبة 14,1% في العام 2019 (بعد تراجعها بنسبة 3,5% في العام 2018)، حيث بلغت 198,9 مليون دولار مقابل 231,5 مليون دولار في العام 2018. بالتوازي، انخفض عدد الحاويات بنسبة 16,5% ليبلغ 729,927 حاوية في العام 2019 بعدما كان انخفض بنسبة 2,6% في العام 2018. أما حجم البضائع في المرفأ، فانخفض بنسبة 18,3% أي من 7,985 ألف طن في العام 2018 الى 6,524 ألف طن في العام 2019، بعد تراجعه بنسبة 7,5% في العام 2018.

أخيراً، انخفضت القيمة الإجمالية للشيكات المتقاصة، والتي تشكّل أحد مؤشّرات الإنفاق الإستهلاكي والإستثماري في الإقتصاد اللبناني، بنسبة 14,4% في العام 2019، معبّرةً عن تراجع هذا الإنفاق. وقد انخفضت القيمة الإجمالية لهذه الشيكات المتقاصة من 66,560 مليون دولار في العام 2018 الى 56,971 مليون دولار في العام 2019.

1-2- القطاع الخارجي: تقلّص في الواردات بنسبة 18% في الفصل الرابع من السنة يولّد تراجعاً في العجز التجاري بنسبة 26%.

تُبيّن آخر الإحصاءات الصادرة عن السلطات الجمركية اللبنانية حول الفصل الرابع من العام 2019، أي أشهر الأزمة، تراجع الواردات بنسبة 18,4% ونمو الصادرات بنسبة 22,8%، ما أدّى الى انخفاض عجز الميزان التجاري بنسبة 26,0% في الفصل الرابع من السنة مقارنةً مع الفصل ذاته من العام 2018، وهو منحىً مرشّح للإستمرار والإزدياد في الأشهر المقبلة. ولا بدّ من أن تسعى الحكومة الجديدة الى تشجيع الإنتاج المحلّي على حساب الإستيراد، عبر تقديم حوافز للقطاعات التي تنتج سلعاً استهلاكية بديلة من الواردات وسلعاً موجّهة نحو التصدير.

وفي العام 2019، شهد القطاع الخارجي تراجعاً نسبياً في عجز الميزان التجاري بلغت نسبتُه 8,9% على أساس سنوي، بحيث انخفض هذا العجز من 17,0 مليار دولار الى 15,5 مليار دولار. وقد نتج ذلك عن النمو الملحوظ للصادرات بنسبة 26,5% والانخفاض النسبي للواردات بنسبة 3,7%. ومن جرّاء ذلك، بلغت نسبة تغطية الواردات بالصادرات 19,4% في العام 2019 مقابل 14,8% في العام 2018.

ولمزيد من التفاصيل، بلغت قيمة الصادرات 3,7 مليارت دولار في العام 2019 مقابل 3,0 مليار دولار في العام 2018 لتسجّل أعلى نمو سنوي لها في حوالي عقد من الزمن. ويبيّن توزّع الصادرات حسب أنواع السلع والمنتجات أن النمو الأبرز بين الأنواع الرئيسية سجّلته المجوهرات (+124,5%)، تلتها الصادرات من المعدّات والمنتجات الكهربائية (+18,6%)، ثم الزيوت والشحوم (+5,5%)، فالورق والمنتجات الورقية (+2,9%) في العام 2019 بالمقارنة مع العام 2018.

أما توزّع الصادرات حسب بلدان المقصد، فيُظهر أن سويسرا سجّلت النمو الأبرز بازدياد الصادرات اللبنانية اليها بنسبة 717% على أساس سنوي (بلغت حصتها من هذه الصادرات 28,0% من المجموع)، تلتها اليونان التي زادت الصادرات إليها بنسبة 50,0%، ثم المملكة العربية السعودية (+16,0%)، فمصر (9,9%)، فالولايات المتحدة الأميركية (+9,5%). أما الصادرات الى جنوب أفريقيا فقد انخفضت بنسبة 60,3%، تلتها تلك المرسلة الى تركيا (-52,0%)، فإلى إسبانيا (-26,3%). ونشير الى أن الصادرات البريّة عبر سوريا واصلت نموها بشكل ملحوظ (+41,7%)، بارتفاع قيمتها من 199 مليون دولار الى 282 مليون دولار. أما الصادرات عبر المطار، فقد ارتفعت بنسبة 86,5% ، بينما انخفضت الصادرات عبر المرفأ بنسبة 6,6% في العام 2019.

في موازاة ذلك، بلغت قيمة الواردات 19,2 مليار دولار في العام 2019 مقابل 20,0 مليار دولار في العام 2018. ويبيّن توزّع الواردات حسب أنواع السلع والمنتجات أن النمو الأبرز سجّلته المنتجات المنجميّة (+58,5% على أساس سنوي). أما أهم الأنواع التي انخفضت وارداتها بشكل ملحوظ فهي المعادن والمنتجات المعدنية (-33,0%)، ثم الإسمنت والمنتجات المشتقّة من الحجر (-31,0%)، فالسيارات والمركبات (-29,2%)، فالمعدّات والمنتجات الكهربائية (-28,3%)، فالمجوهرات (-25,6%)، فالمنسوجات (-19,8%)، فالمواشي ومنتجات المملكة الحيوانية (-19,1%)، وذلك على أساس سنوي في العام 2019.

أما توزّع الواردات حسب بلدان المنشأ، فيُظهر أن تلك الآتية من روسيا والكويت هي التي سجّلت على أساس سنوي النمو الأبرز (+137,0% و+106,3% بالتتابع)، تلتها الواردات الآتية من بلجيكا (+61,1%)، ثم من الولايات المتحدة الأميركية (+18,6%)، فمن فرنسا (+8,5%) على أساس سنوي. أما الواردات الآتية من المملكة العربية السعودية فقد سجّلت الإنخفاض الأبرز بين السلع المستوردة من أهم شركائنا التجاريّين         (-31,5%)، تلتها الواردات من سويسرا (-30,5%)، ثمّ من مصر (-25,7%)، فمن الصين (-20,6%) وألمانيا (-18,4%) واليونان (-18,0%) في العام 2019.

1-3- القطاع العام: تقلّص في الإيرادات العامة بنسبة 29% في تشرين الأول أدّى تقريباً الى مضاعفة العجز العام الشهري.

 جرّاء التطورات الإجتماعية والسياسية التي بدأت في تشرين الأول 2019، أظهرت احصاءات المالية العامة اللبنانية لشهر تشرين الأول (آخر الأرقام المتوافرة) نمواً ملحوظاً للعجز العام نتيجة الإنخفاض الكبير للإيرادات العامة بنسبة 29,4% على أساس سنوي بسبب التباطؤ الإقتصادي وضعف نشاط القطاع الحقيقي، مقابل تراجع أقلّ للنفقات العامة بلغت نسبتًه 10,9% على أساس سنوي.

مع ذلك، فقد اتّبع العجز العام مساراً تراجعياً في الأشهر العشرة الأولى من العام 2019، بانخفاضه بنسبة 15,0% على أساس سنوي. ولدى احتساب هذا العجز على أساس سنوي، يتبيّن أنه يعادل 4,8 مليارات دولار، أي ما نسبتًه 8,2% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يُنبئ بابتعاد نسبة العجز السنوي عن تلك المستهدفة في موازنة العام 2019. ويُعزى التقلّص الصافي للعجز العام بصورة خاصة الى تراجع النفقات الإجمالية بنسبة 8,6% وانخفاض الإيرادات العامة بنسبة أقل قدرها 5,5% بحسب وزارة المالية.

إن التقلّص الصافي للنفقات الإجمالية، من 14,7 مليار دولار في الأشهر العشرة الأولى من العام 2018 الى 13,4 مليار دولار في الأشهر العشرة الأولى من العام 2019، قد جاء في سياق انخفاض نفقات الموازنة بنسبة 7,6% وانخفاض نفقات الخزينة بنسبة 18,2%. أما انخفاض نفقات الموازنة فيعود الى تراجع نفقات الموازنة العامة بنسبة 10,3% في ظلّ تراجع التحويلات لصالح مؤسسة كهرباء لبنان بنسبة 5,2%، بينما يعود انخفاض نفقات الخزينة الى تقلّص نفقات البلديات بنسبة 13,2%.

في موازاة ذلك، يتّضح أن انخفاض الإيرادات العامة من 9,9 مليارات دولار الى 9,4 مليارات دولار في الفترة المعنيّة قد جاء في سياق انخفاضٍ معتدل لإيرادات الموازنة بنسبة 3,2% وتراجع إيرادات الخزينة بنسبة 36,5%. أما انخفاض إيرادات الموازنة، فقد نتج عن انخفاض الإيرادات الضريبية بنسبة 4,0%، في ظلّ انخفاض صافٍ لإيرادات الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 19,3% وللإيرادات الجمركية بنسبة 9,0%. في المقابل، ظلّت الإيرادات غير الضريبية شبه مستقرّة نتيجة انخفاض بسيط لإيرادات قطاع الإتصالات لم تتعدَّ نسبتُه 0,4% على أساس سنوي.

لقد بلغ الدين العام الإجمالي بلغ 89,5 مليار دولار في تشرين الثاني 2019، أي بزيادة نسبتُها 7,0% مقارنةً مع تشرين الثاني 2018 و5,1% مقارنةً مع كانون الأول 2018. وقد ازداد الدين العام بالليرة اللبنانية بنسبة 11,2% مقارنة مع تشرين الثاني 2018 لتوازي قيمته 55,9 مليار دولار في تشرين الثاني 2019. أما الدين العام بالعملات الأجنبية، فقد زاد بنسبة 0,6% مقارنةً مع تشرين الثاني 2018 ليناهز 33,6 مليار دولار في تشرين الثاني 2019. في هذا السياق، وبعد تنزيل ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان والمصارف التجارية من مجموع الدين العام، يكون الدين العام الصافي قد ازداد بنسبة 7,4% مقارنةً مع تشرين الثاني 2018 لتصل قيمته الى 80,6 مليار دولار في تشرين الثاني 2019. بناءً عليه، تقدَّر نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بحوالى 153% في تشرين الثاني 2019، وهي تلامس المستوى الأعلى الذي بلغته منذ عشر سنوات.

1-4-  القطاع المالي

1-4-1-   الوضع النقدي: تقلّص صافٍ في احتياطيّات مصرف لبنان الأجنبية في العام 2019

في العام 2019، اتّسمت الأوضاع النقدية بتحويلات صافية ملحوظة لصالح العملات الأجنبية، وبقلّة السيولة بالدولار الأميركي، وبارتفاع فائدة من يوم إلى يوم الى مستويات قياسية، وبانخفاض احتياطيّات مصرف لبنان الأجنبية بحيث بلغت أدنى مستوى لها منذ العام 2015.

في التفاصيل، شهدت سوق القطع خلال العام 2019 موجة تحويلات صافية لصالح العملات الأجنبية وندرة في السيولة بالدولار الأميركي، ما استوجب اتّخاذ تدابير مصرفية استثنائية ودفع مصرف لبنان الى إصدار تعاميم جديدة ابتداءً من تشرين الثاني 2019 لتنظيم تمويل استيراد بعض السلع الأساسيّة بالعملات الأجنبية، ما رفع فائدة من يوم إلى يوم الى مستويات قياسية قاربت الـ 100%.

في هذا السياق، سجّلت الموجودات الخارجية لمصرف لبنان انخفاضاً بقيمة 2,4 مليار دولار لتصل الى 37,3 مليار دولار في كانون الأول 2019 (بما فيه سندات يوروبوند لبنانية بقيمة 5,7 مليار دولار). ويفسَّر تراجع الموجودات الخارجية لمصرف لبنان تحديداً، بتدخّل مصرف لبنان المتواصل في سوق القطع بائعاً النقد الأجنبي، إضافة الى تسديده سندات يوروبوند بقيمة إجمالية قدرها 2,650 مليون دولار أميركي ودفعه قسائم بقيمة إجمالية قدرها 2,074 مليون دولار في العام 2019، علماً ان احتياطيّات القطع الأجنبي لدى مصرف لبنان مرشّحة لمزيد من التراجع في العام 2020 بسبب الحاجة الى تمويل العجز بالنقد الأجنبي وتسديد استيراد بعض السلع الأساسية.

في موازاة ذلك، انخفضت الإكتتابات الإجمالية للجهاز المالي (المصارف ومصرف لبنان) بسندات الخزينة بالليرة بنسبة 38,6% على أساس سنوي، متراجعةً من 28,557 مليار ليرة لبنانية في العام 2018 إلى 17,524 مليار ليرة في العام 2019. وبلغت قيمة الإستحقاقات 12,852 مليار ليرة، مولّدةً بالتالي فائضاً إسمياً بقيمة 4,672 مليار ليرة في العام 2019، مقابل فائض أكبر بكثير قدره 11,665 مليار ليرة في العام 2018. في غضون ذلك، واصل مصرف لبنان خلال العام 2019 تأدية دور الوساطة بين الدولة والمصارف، عبر الإكتتاب بسندات من فئة العشر سنوات في تشرين الثاني وكانون الأول 2019 بقيمة إجمالية قدرها 4,500 مليار ليرة بفائدة 1%. وعليه، بلغت محفظة سندات الخزينة بالليرة المملوكة من مصرف لبنان ما قيمته 57,270 مليار ليرة في كانون الأول 2019، أي ما يعادل 38,0 مليار دولار، بزيادةٍ قدرها 10,787 مليار ليرة في غضون سنة واحدة، أو ما يعادل 7,2 مليار دولار، مقابل زيادة أقلّ بكثير قدرها 2,361 مليار ليرة في العام 2018، أو ما يعادل 1,6 مليار دولار.

من جهة أخرى، شهد العام 2019 أول ارتفاع لمعدلات الفائدة على الليرة من خلال جميع فئات سندات الخزينة المصدرة منذ نيسان 2012. وفي هذا السياق، سجّل متوسط المردود المثقَّل على محفظة سندات الخزينة بالليرة (بما فيه لدى الجهاز المصرفي والقطاع العام والأفراد والمؤسسات الفردية) 6,62% في تشرين الثاني 2019 مقابل 6,11% في كانون الأول 2018. أما محفظة شهادات الإيداع بالليرة، فقد زادت في العام 2019 بقيمة 309 مليارات ليرة لتصل الى 48,043 مليار ليرة في كانون الأول عقب نمو هذه المحفظة بقدرٍ أكبر بكثير بلغ 11,869 مليار ليرة في العام 2018.

 1-4-2-  النشاط المصرفي: انخفاض الودائع المصرفية بقيمة 15 مليار دولار في العام 2019، منها 11 مليار في الفصل الأخير من السنة

واجه القطاع المصرفي اللبناني مؤخّراً ظروفاً تشغيلية بالغة الصعوبة في ظلّ مخاوف من وضع السوق تمخّضت عن طلبات سحوبات متزايدة، علماً أن المصارف اضطرّت الى فرض قيود صارمة على عمليات السحب وعلى التحويلات الى الخارج من أجل احتواء تقلّص احتياطيّات مصرف لبنان من القطع الأجنبي وحماية حقوق المودعين واستقرار النظام المالي. في غضون ذلك، واصلت ودائع الزبائن تراجعها منذ بداية المظاهرات في منتصف تشرين الأول، مسجّلةً انخفاضاً تراكمياً بقيمة 15,4 مليار دولار في العام 2019، منها 11,4 مليار دولار في الفصل الأخير من السنة.

ويُعزى تراجع الودائع بصورة خاصة الى الودائع بالليرة، التي انخفضت في الفترة المعنيّة بقيمة 13,1 مليارات دولار في العام 2019 في ظلّ تحويلات متواصلة في سوق القطع من الليرة اللبنانية الى العملات الأجنبية. أما الودائع بالنقد الأجنبي، فانخفضت بقيمة 2,3 مليار دولار في الفترة ذاتها. تجدر الإشارة إلى أن ودائع المقيمين استأثرت بنسبة 66% من التراجع الإجمالي مقابل 34% لغير المقيمين. وفي هذا السياق، ارتفعت نسبة دولرة الودائع لتصل الى 76,0% في كانون الأول 2019 مقابل 70,6% في كانون الأول 2018، بحيث سجّلت مستوىً قياسياً لم تعرفه منذ العام 2008.

في موازاة ذلك، واصلت المصارف سياسة الحدّ من المخاطر، عبر خفض محفظتها الإجمالية من التسليفات، علماً أن بعض الزبائن المدينين آثروا، بعد الأحداث الأخيرة، السحب من حساباتهم الدائنة لتسديد ديونهم. وهكذا، أدّى تضاؤل فرص التسليف الى تقلّص محفظة التسليفات بحيث بلغت الديون المصرفية على القطاع الخاص 49,8 مليار دولار في كانون الأول، أي بانخفاض قدره 9,6 مليار دولار في العام 2019.

وقد استأثرت التسليفات بالعملات الأجنبية بنسبة 72% من التراجع الإجمالي لمحفظة التسليفات الممنوحة للقطاع الخاص، تاركةً 28% للتسليفات بالليرة. وبلغت نسبة دولرة التسليفات 68,7% في كانون الأول 2019. وكان معظم التراجع الذي أصاب المحفظة المذكورة عائداً الى المقيمين (84%). الى ذلك، تردّت مؤشّرات نوعية الموجودات المصرفية في العام 2019 بسبب الركود الإقتصادي. ذاك أن نسبة الديون المشكوك في تحصيلها إلى الديون الإجمالية ارتفعت من 4,30% في كانون الأول 2018 الى 8,11% في تشرين الثاني 2019، في ظلّ ازدياد تخلّف القطاع الخاص عن سداد قروضه جرّاء الوضع الإقتصادي العام والظروف التشغيلية الصعبة.

في الوقت ذاته، قلّصت المصارف حجم تعرّضها لسندات الدين السيادية بقيمة 2,2 مليار دولار بالنقد الأجنبي وبما يوازي 2,7 مليار دولار بالليرة اللبنانية في العام 2019. ومن جرّاء ذلك، سجّل تعرّض المصارف للخطر السيادي بالعملات الأجنبية مستوى متدنّياً قدره 67% من أموالها الخاصة في كانون الأول 2019.

ففي الواقع، زادت الأموال الخاصة في الفترة المعنيّة بنسبة 2,8% لتصل الى 20,7 مليار دولار في كانون الأول 2019، علماً أن المصارف بصدد زيادة رساميلها بنسبة 20% من الآن حتى حزيران 2020 إنفاذاً لتعاميم مصرف لبنان، بهدف المزيد من الحماية في مثل هذه الظروف الصعبة. ونشير هنا الى أن نسبة ملاءة المصارف بلغت 17,3% في حزيران 2019 حسب آخر إحصاءات مصرف لبنان، ما يمكّنها من مواجهة احتمالات تزايد المخاطر، علماً أن الربحيّة تراجعت الى النصف في العام 2019 بسبب زيادة الضرائب ومتطلّبات تكوين المؤونات.

1-4-3-  البورصة وسوق السندات: تقلّبات حادّة في أسواق الرساميل اللبنانية

في ما يخصّ أسواق الرساميل اللبنانية، كانت سنة 2019 سنةً شابتها الفوضى في ظلّ المظاهرات الإحتجاجيّة الشعبية والغموض المتزايد حيال تشكيل الحكومة، وتردّي التصنيف السيادي من قبل مجمل وكالات التصنيف الدولية. فقد سجّلت أسعار سندات اليوروبوند اللبنانية أدنى المستويات القياسية وواصلت أسعار الأسهم تراجعها بنسبة تفوق العشرة في المئة للسنة الثانية على التوالي.

ففي العام 2019، تأثّرت سندات اليوروبوند كثيراً بالتجاذبات السياسية المحلية المتزيدة وبالاضطرابات الإجتماعية وبتردّي تصنيف لبنان السيادي من قبل ثلاث وكالات تصنيف دولية. على سبيل المثال، قامت وكالة " فيتش" بخفض تصنيف لبنان السيادي الى"CC"  فيما خفّضت وكالة "موديز" تصنيف لبنان مرّتين بحيث تراجع الى درجة "Caa2 ". أما وكالة "ستاندارد إند بورز"، فقد خفّضت تصنيف لبنان السيادي إلى "CCC" في تشرين الثاني 2019. وقد ترافق ذلك مع دعوات دولية الى تشكيل حكومة موثوقة قادرة على الشروع في إصلاحات اقتصادية ومالية سريعة قبل أن يتلقّى البلد أيّ دعم مالي دولي مرتجى.

لقد اتّسمت سوق سندات الدين اللبنانية في العام 2019، وخصوصاً في الفصل الرابع منه، بانخفاضات تصحيحية بارزة للأسعار وبمبيعات كثيفة من قبل المستثمرين الدوليّين. في هذا السياق، سجّلت سندات اليوروبوند السيادية التي تستحقّ بين 2020 و2037 تراجعاً كبيراً في أسعارها، راوح بين 8,0 نقاط أساس و38,13 نقطة أساس في العام 2019. أما متوسط المردود المثقّل على سندات اليوروبوند اللبنانية، فقد ارتفع بشدّة بعد 17 تشرين الأول بحيث بلغ 30,0% في كانون الأول 2019، وواصل مساره التصاعدي في كانون الثاني 2020 ليتجاوز الــ 40% بسبب المخاوف المتزايدة من تخلّف لبنان عن سداد دينه العام. وكان هذا المردود قد بلغ مستوى أقلّ بكثير لا يتعدّى 9,95% في كانون الأول 2018.

أما هوامش مقايضة المخاطر الائتمانية من فئة خمس سنوات، فسجّلت ارتفاعاً كبيراً، من 770 نقطة أساس في كانون الأول 2018 الى 2,419 نقطة أساس في كانون الأول 2019، ثمّ لامست الــ3,500 نقطة أساس في كانون الثاني 2020، في إشارة واضحة الى تردّي نظرة الأسواق الى المخاطر السيادية بشكل عام.

بالتوازي، سجّلت بورصة بيروت في العام 2019 أداءً سلبياً، تمثّل في استمرار خسائر السنة السابقة بسببب المخاوف السائدة حيال الآفاق الإقتصادية والمالية للبلاد والتراجع الواضح لعامل الثقة. فمؤشّر أسعار الأسهم المدرجة في بورصة بيروت تراجع بنسبة 16,9% في العام 2019 وعـرف المزيد من التراجع في كانون الثاني 2020. وقد سجّلت أسعار 14 من أصل 26 سهماً مدرجاً في بورصة بيروت هبوطاً بنسب راوحت بين 0,4% و37,1% بينما سجّلت أربعة أسهم أرباحاً وصلت الى 4,3% ولم تشهد أسعار 9 أسهم أيّ تغيّر في العام 2019.

ونظراً إلى هبوط الأسعار بشكل ملحوظ ولشطب عدد من الأسهم، فقد تراجع حجم الرسملة البورصية بنسبة 17,3% على أساس سنوي لتبلغ 7,540 كليون دولار في كانون الأول 2019. وبلغت القيمة الإجمالية لعمليات التداول في بورصة بيروت 197 مليون دولار في العام 2019 مقابل 376 مليون دولار في العام 2018، علماً أن أسهم المصارف استأثرت بنسبة 82% من نشاط البورصة. ومن جرّاء ذلك، بلغت نسبة حجم التداول السنوي إلى الرسملة البورصية 2,6% في العام 2019، وهذا أدنى مستوى لها منذ العام 2001.

باختصار، إذا وجدت الإصلاحات البنيوية المرجوّة والمنتظرة طريقها الى التنفيذ السليم، وإذا تمّ التجاوب مع مطالب المتظاهرين، فمن الممكن أن يُستعاد ويتحسّن عامل الثقة تدريجياً، وهو شرط مسبق لنهوض أسواق الرساميل اللبنانية التي أصابها ضرر كبير.

الخاتمة: سيناريو الهبوط الآمن ما زال ممكناً على رغم تفاقم التحديات الماثلة أمام إرسائه

لا شكّ أن الاختلالات البنيوية القائمة في لبنان حالياً جسيمة، لا سيما على صعيد القطاعين الخارجي والعام، إلا أن المخارج ما زالت متاحة وتحقيق سيناريو الهبوط الآمن ما زال ممكناً، إذا تمّ اتخاذ خيارات وتدابير جذرية من قبل واضعي السياسات. فالأرقام ما زالت قابلة للاحتواء إذا صدقت النوايا، وفي حال أُطلقت عجلة الإصلاحات الهيكلية بشكل ملائم، في إمكان لبنان أن ينتقل تدريجياً من حقبة الوهن الاقتصادي إلى حقبة الاحتواء التدريجي للمخاطر والتهديدات كشرط أساسي لأي نهوض اقتصادي منشود في المدى المتوسط إلى الطويل.

في هذا السياق، يتعيّن على الحكومة الجديدة أن تواجه خمسة تحديات ماكرو اقتصادية رئيسية ألا وهي: (1) تصحيح الاختلالات الخارجية التي تفاقمت نتيجة التراجع الملحوظ في حركة الأموال الوافدة في ظل شبه القيود المفروضة على حركة الرساميل الخارجية. (2) تصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامة التي تشكّل عنصر الهشاشة الأبرز حالياً في الاقتصاد الوطني. (3) تصحيح الوضع النقدي مع التراجع المتوقع في احتياطيات مصرف لبنان في ظل الاحتياجات التمويلية الملحوظة بالعملات الأجنبية. (4) تصحيح الأوضاع المصرفية مع ضرورة توحيد الإجراءات المصرفية بالترافق مع مزيد من التخفيض في معدلات الفوائد. (5) إعادة النمو الاقتصادي وخلق الوظائف، بعد انتقال الاقتصاد الوطني حالياً من حلقة النمو المنخفض إلى وضعية الركود التي تؤثر على جميع قطاعات النشاط الاقتصادي.

- أولاً، في ما يتعلق بالتصحيح المطلوب على مستوى القطاع الخارجي، إن النموذج القائم على استدامة العجز التجاري الملحوظ بالاعتماد على تدفقات الأموال الوافدة لم يعد قابلاً للاستمرار نظراً إلى التراجع الملحوظ في حركة التدفقات المالية. عليه، فإن الأولوية تكمن هنا في إعادة تحفيز التدفقات المالية الوافدة وخفض الواردات وتعزيز الصادرات. في الواقع، هناك إمكانية لتحقيق توازن في ميزان المدفوعات من خلال تخفيض حجم الواردات بنسبة 40% وزيادة الصادرات بنسبة 20% وذلك رغم فرضية التراجع في حركة الأموال الوافدة بنسبة تقارب 25% خلال العام الحالي. إن المطلوب هنا أولاً قوننة حركة الرساميل الخارجية في العام 2020، على أن يتم تحريرها تدريجاً بدءاً من العام 2021 إذا تحسّن عامل الثقة. لذلك من المهم إصدار قانون تشريعي يضبط حركة الرساميل ويتضمن وضع قائمة بالتحويلات الطارئة مع تحديد سقوف عليها، فرض قيود على استيراد السلع التي لها بدائل محلية الصنع، تسهيل تمويل استيراد المواد الأولية للإنتاج المحلي، بالإضافة إلى فرض قيود على التحويلات الخارجية للعمال الأجانب العاملين في لبنان. في موازاة ذلك، من الضروري اتخاذ تدابير لتعزيز الإنتاج المحلي على حساب الواردات من خلال تحفيز السلع الموجهة نحو التصدير والسلع البديلة للاستيراد للحدّ من العجز التجاري القائم. في هذا السياق، من المهم تحسين وتوسيع نطاق البرامج القائمة لدعم الصادرات واستحداث برامج تحفيزية جديدة تتوجه نحو القطاعات التي تتمتع بنسب متدنية من الاستثمار إلى القيمة المضافة الناجمة عنه. كما أن تشجيع الإنتاج المحلي يجب أن ينطوي على رفعٍ للرسوم الجمركية لحماية المنتجات المحلية، تأمين حوافز ضريبية للمنتجين المحليين، دعم أكبر قدر ممكن من عملية استيراد المواد الأولية، ناهيك عن ترويج الإنتاج المحلي في الخارج مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية.

- ثانياً، إن تصحيح اختلالات المالية العامة أمر ملحّ جداً. إذ لا يمكن للبنان أن يحافظ على استقراره النقدي والمالي مع نسبة مديونية تصل إلى 153% من الناتج وهي ثالث أعلى نسبة في العالم، ومع نسبة في العجز المالي العام تناهز 8% من الناتج وهي بين العشر الأول في العالم، خصوصاً أن النموذج القائم حول تمويل العجز المالي العام عن طريق نمو الودائع غير قابل للاستدامة مع انخفاضٍ صافٍ في الودائع المصرفية في العام المنصرم. من هنا ليس أمام الدولة خيار سوى تخفيض احتياجاتها التمويلية في المدى المنظور. بالتالي فإن التصحيح المرجو على صعيد المالية العامة يجب أن يتأتّى من عدد من التدابير التي تتمحور بشكل خاص حول تقشف في الإنفاق العام، تعزيز تعبئة الموارد، مكافحة التهرب الضريبي، إصلاح قطاع الكهرباء، وتحقيق بعض الوفورات في خدمة الدين العام. إن المطلوب هنا البدء بتقشف جذري في الإنفاق العام من خلال تجميد الرواتب وتخفيض النفقات غير الثابتة (أي خارج الأجور والرواتب وخدمة الدين والتحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان) بنسبة لا تقلّ عن 20%. هذا بالإضافة إلى إصلاح قطاع الكهرباء عبر بناء محطات الطاقة اللازمة، وضمان الكهرباء على مدار 24 ساعة ورفع رسوم الكهرباء بنسبة 45% وتقليص الخسائر التقنية وغير التقنية، ما من شأن هذه العوامل مجتمعةً أن تساهم في تحقيق توازن في مالية مؤسسة كهرباء لبنان خلال فترة زمنية لا تتعدّى الثلاث سنوات. وينبغي أن يترافق ذلك مع خفض في نسب خدمة الدين في العام 2020، في حين يُعاود مصرف لبنان اكتتابه في محفظة سندات الخزينة بفائدة 1% في العام 2020. أما على صعيد الإيرادات، فإن المطلوب هنا من أجل تعزيز تعبئة الموارد، اتخاذ تدابير صارمة من قبل الحكومة الجديدة لمكافحة الفساد لكيّ يتم تقبّل أي اقتطاع ضريبي إضافي بشكل عام من قبل اللبنانيين. بموازاة ذلك، هناك حاجة ضرورية لسدّ ما لا يقل عن نصف فجوة التهرب الضريبي بين الأعوام 2021 و2024 (أي 1.0% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً).

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن نسبة تعبئة الموارد في لبنان لا تتجاوز 16٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أقل من متوسط البلدان النامية البالغ 30٪ ومتوسط البلدان المتقدمة البالغ 40%، ما يشير إلى القدرة على تعزيز هذه النسبة في لبنان ببعض النقاط المئوية. كما هناك مجال أيضاً لخصخصة بعض المؤسسات العامة مثل قطاع الاتصالات وطيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان بما يدرّ ما لا يقل عن 10 مليار دولار على الخزينة، أضف إلى ذلك الإيرادات الإضافية جراء بيع بعض موجودات القطاع العام من أملاك وعقارات، ما من شأنه أن يؤدي إلى اقتطاع جزئي في مخزون الدين العام وبالتالي تحقيق وفورات موازية في خدمة الدين. من هنا، وفي حال تمّ تنفيذ جميع هذه التدابير، من الممكن خفص نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 153% اليوم إلى ما يقارب 100% خلال خمس سنوات، وتحقيق صفر عجز في المالية العامة في حينه.

- ثالثاً، إن دعم الوضع النقدي يعدّ ضرورياً للحفاظ على الاستقرار المنشود. على المستوى النقدي، هناك حاجة ملحّة لاحتواء تراجع احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية باللجوء إلى الدعم الخارجي. في الواقع، يقع على عاتق مصرف لبنان التمويل بالعملات الأجنبية لواردات لبنان من القمح والأدوية والبنزين ودفع الفوائد على سندات اليوروبوندز، إضافةً إلى تمويل شراء المشتقات النفطية لمؤسسة كهرباء لبنان، ما يشكل احتياجات تمويلية سنوية بالعملات الأجنبية بما يقارب 10 مليار دولار، وذلك على أساس فرضية مبادلة سندات اليوروبوندز المستحقة خلال العام بسندات أطول أجلاً. وبالتالي، من أجل سدّ هذه الفجوة لحين استعادة الثقة، يحتاج لبنان إلى اللجوء للدعم الخارجي. والمطلوب هنا تأمين التمويل من قبل صندوق النقد الدولي بما يقارب عشرة أضعاف حصة لبنان لدى الصندوق والبالغة 880 مليون دولار (أي 8.8 مليار دولار) والتي يتمّ دفعها على أساس فصلي بدءاً من العام 2021. أَضف إليه ما يمكن أن يتبع ذلك من تدفق لإيداعات خارجية لدى مصرف لبنان. في ظل هذا السيناريو، فإن احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية قد تتقلّص بشكل لافت في العام 2020 نتيجة تمويل كل من العجز العام وواردات لبنان من السلع الأساسية، ولكن من الممكن أن تعاود ارتفاعها بدءاً من العام 2021.

- رابعاً، على صعيد القطاع المصرفي، إن توحيد المعايير والإجراءات المصرفية من قبل مصرف لبنان هي السياسة الملائمة التي تقع على عاتق السلطات المرجعية لحماية كل من المودعين والمصارف معاً في ظل الظروف التشغيلية الصعبة حالياً. إن هكذا خطوة تضمن الإنصاف والمساواة في الحقوق بين المودعين وتؤمّن في الوقت نفسه غطاءً تشريعياً مناسباً للمصارف اللبنانية، ما يُفترض أن يساعد القطاع المالي على مواجهة الأوضاع الشائكة الراهنة، بانتظار تحقيق خرق سياسي واقتصادي يساعد على تحسين عامل الثقة تدريجياً وضمان العودة إلى المسار الطبيعي. في الواقع، إن الحاجة الملحّة اليوم هي تنظيم العلاقة بين المؤسسات المصرفية وقاعدة زبائنها في ظل مناخ غير نمطي. في المقابل، لقد بات مطلوباً اليوم تخفيض معدلات الفوائد على الودائع المصرفية بشكل مهمّ هذا العام، في ظل القيود المفروضة على حركة الرساميل الخارجية، وذلك بما لا يقل عن 3% على الودائع بالليرة اللبنانية وعلى الودائع بالعملات الأجنبية، يرافقها تخفيض معدلات الفوائد على القروض المصرفية بنسب مماثلة إلى حدّ ما.

- خامساً، يُعدّ تعزيز النمو الاقتصادي وخلق الوظائف أمراً جوهرياً لملاقاة المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية في ضوء التظاهرات الشعبية التي اندلعت منذ منتصف شهر تشرين الأول. فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي 0.2٪ في العام 2019 ومن المتوقع أن يكون سلبياً في العام 2020. إننا نتوقع أن يبلغ النمو الاقتصادي    -2% هذا العام، إلا أن هناك إمكانية لأن يرتفع تدريجياً مع تحقيق سيناريو الهبوط الآمن في غضون خمس سنوات شرط استعادة ثقة القطاع الخاص. إن تحليل دقيق لمتطلبات القطاع الحقيقي والقطاع المالي يشير إلى أن تعزيز نسب النمو الاقتصادي ممكن تقنياً في المدى المنظور، غير أنه يتطلب مناخاً سياسياً داعماً وإطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية المرجوة لتحفيز الطلب على السلع والخدمات، وتعزيز التنافسية للاقتصاد اللبناني إلى جانب تحسين عامل الثقة بشكل عام. من هنا، فإن المفتاح الأساس يكمن في تحفيز الطلب الخاص خصوصاً أن الطلب العام عرضة للانكماش في سياق متطلبات التصحيح المرجو على صعيد المالية العامة. إن التحدي المحوري في سبيل تحفيز النمو الخاص يكمن في تحفيز الاستثمارات الخاصة، مع الإشارة إلى أن الاستثمار له التأثير الأكبر على النمو الاقتصادي الكلي من خلال مفعول مضاعف الاستثمار بشكل عام. فلبنان بحاجة إلى رفع نسبة الاستثمار الخاص إلى الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 2.5% سنوياً خلال السنوات المقبلة وذلك من أدنى مستوياتها خلال عشرين عام والبالغة أقلّ من 20٪ اليوم. تجدر الإشارة إلى أن نمو الاستثمار يعزّز مكوّن العمالة في النمو الاقتصادي والذي يتطلّب خلق وظائف جديدة لاستيعاب أكثر من 30,000 لبناني ينضمون كل سنة إلى القوى العاملة في لبنان. في هذا السياق، تبرز معضلة خلق الوظائف في لبنان من بين القضايا الأساسية نظراً إلى أن معدل البطالة قد تضاعف ليتجاوز 25% مؤخراً. ويرتبط تحفيز الاستثمار الخاص بتحسن بيئة الأعمال من خلال تخفيض التكاليف التشغيلية وتحسين سهولة مزاولة الأعمال في لبنان، بالترافق مع خفض معدلات الفوائد المرتفعة والتي كان لها ظاهرة استبعادية لافتة على الاستثمار الخاص خلال السنوات القليلة المنصرمة.

أخيراً، إن اعتماد وتطبيق سياسات تستجيب للمطالب الشعبية على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة بالترافق مع إطلاق عجلة الإصلاحات التي طال انتظارها، ما زالت قادرة على احتواء الاختلالات القائمة وعناصر الهشاشة في الاقتصاد اللبناني، وتوفير دعم نسبي للوضع المالي والنقدي، وتأمين الانتقال السلس من حقبة الوهن الاقتصادي إلى حقبة التحسن التدريجي في مستوى المعيشة بشكل عام".

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o