كي لا يكون الحداد على لبنان أبديًّا
كتب عقل العويط
حدادًا على الأحياء، على الموتى، على شجر الزيتون، على التراب، على البيوت، على الأرزاق، على الأحلام، على الآمال، على الأراضي، على الدموع المهرقة وتلك التي لُجِمت وراء مآقيها، تلزمنا أوقاتٌ وأمكنةٌ، أرواحٌ وأجسامٌ نظيفة، ومشاعر عليا، ومشاعر دنيا، كي ننصرف بعد تعداد خساراتنا، وأرباحنا (هل ثمّة أرباح؟!)، إلى إيقاعاتنا، إلى أشغالنا وأيّامنا العاديّة، وإلى السياسة، وحساباتها، وخطاباتها، وحروبها الصغيرة، وتلك المقيتة، بشيءٍ من الترفّع وعلوّ النفس والكرامة.
حدادًا، يلزمنا الكثير من الندم، من التواضع، من الانسحاق، من الصمت، من الخجل، من التهيّب، من حضارة القلب، من حضارات العقل، وعلوم الواقع، قبل أنْ يتجرّأ أحدنا فيقول للآخر أنتَ لا تشبهني، وأنا لا أشبهكَ. قبل أنْ يقول له أنتَ مع الإسرائيليّ والأميركيّ لأنّكَ رفضتَ المشاغلة والمساندة، ولأنّك رفضتَ هذه الحرب، فأنتَ خائنٌ وعميلٌ، ولا أريد أنْ أحيا معكَ تحت سقفٍ واحدٍ، في وطنٍ واحد، ودولة واحدة؟!
كم ينبغي للواحد منّا أنّ يلتزم الحداد، أن يتعلّم من تجارب هذه الحرب، قبل أنْ يباشر إسدال الستار على ما جرى، ونسيان ما جرى، كأنّه لم يكن.
كم ينبغي للواحد منّا أنْ يكفّ عن الاستغراق في الكذب على ذاته، والتكاذب على الآخر، وعن الانصراف إلى الدعارة الكلاميّة، وهول التعابير المهينة التي لا تليق بالهمج، بحاملي السواطير والجلّادين والسفهاء والعهّار، قبل أنْ تكون لائقةً بالبشر الأسوياء العاديّين؟!
ما أسوأ حظّكَ يا لبنان. ما أسوأ حظّكَ بنا.
لم أجد بشاعةً أسوأ من بشاعة الاستيلاء عليك بقوّة تبادل النهب والمحاصصة، و... السلاح، لأيّ سببٍ كان، فكيف لسببٍ ليس لدولتكَ رأيٌ وازنٌ فيه!
لم أجد بشاعةً أبشع من بشاعة عدم الاعتراف بالخطأ، بالذنب، من بشاعة الاستعلاء، والصلف، من بشاعة الجنون الذي يصادر الحكمة عن سابق تصوّرٍ وتصميم!
بلى. بلى. وجدتُها. وجدتُها.
ثمّة بشاعةٌ أعلى شأوًا هي بشاعة دولة إسرائيل العنصريّة، بشاعة الإسرائيليّين أنفسهم، بشاعة أحقادهم المجانيّة، بشاعة انحطاطهم الأخلاقيّ والسياسيّ والعسكريّ، بشاعة وحشيّتهم التي تنافس المطلق الوحشيّ، وتبزّه، وتسبقه، وتنتصر عليه.
بلى. بلى. وجدتُها وجدتُها. أيضًا وأيضًا.
ثمّة بشاعةٌ موازية، هي بشاعة دولة إيران، دولة الحرس الثوريّ الغاشم، وهي دولة تسميم الدول المهيضة كمثل دولة لبنان، بحقٍّ يعلو حقَّ الدولة في سيادتها على ذاتها، وبجبروتٍ قياميّ فُرِض فرضًا على اللبنانيّين، كلّ اللبنانيّين، بمَن فيهم، وفي مقدّمهم الذين يُلجَم رأيهم بقوة الترهيب والإرهاب، وبدعاوى لا علاقة لها بجوهر المكان، وجوهر الناس، وجوهر الوجود برمّته.
حدادًا أحدّ، لكي، بالوعي كلّه، وبعِبَر الواقع المرير، وبمولايَ العقل، أدعو الأهل أجمعين من رأس الناقورة إلى النهر الكبير، ومن جبل حرمون إلى أعالي القرنة السوداء، نزولًا إلى الموج، طالبًا إعمال الحكمة في تدبير الشأن اللبنانيّ، ولو اقتضى الأمر ما يقتضيه من شجاعةٍ أخلاقيّة، وفروسيّة، ونبل، وترفّع، ووعي.
كم نحن في حاجةٍ إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ لتدبير الشأن اللبنانيّ، والشجاعة الواقعيّة لعلاج الانتظام الوطنيّ العام بما يقتضيه قيام دولة وحدة التنوّع الدستوريّ القانونيّ من موجباتٍ وشروط، وإن بمعايير الأمم المتّحدة، والدول الخمس الدائمة العضويّة في مجلس الأمن الدوليّ.
أي رئيس،للجمهورية ليس أهلا, وحكومته، لاسترداد الدولة، وأداء مثل هذا الدور، لن يكون ثمة لزوم لانتخابه.
هذا كي لا يكون الحداد على لبنان أبديًّا.