Nov 12, 2020 11:31 AM
اقتصاد

تقرير بنك عودة عن الفصل الثالث من العام 2020
من أجل تدعيم قدرة المصارف على مواجهة الضغوط في خضمّ الأزمة الاقتصادية

المركزية- أظهر تقرير بنك عودة عن الفصل الثالث من العام 2020 ، أن "الأزمة الاقتصادية الحادة التي اندلعت منذ الفصل الأخير من العام 2019، إضافةً إلى إعلان الدولة اللبنانية عن تعثّرها عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية في الفصل الأول من العام 2020، وتدهور الوضع النقدي في سياق التفاوت الملحوظ بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف السائد في السوق الموازية، ناهيك عن تفشي وباء كورونا والذي نجم عنه إغلاق للبلد لعدد من الأسابيع، مروراً بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب، كلها عوامل أرخت بثقلها على القطاع الحقيقي بشكل خاص وعلى النشاط الاقتصادي بشكل عام".

وجاء في التقرير: "توقع صندوق النقد الدولي أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان انكماشاً بنسبة 25% في العام 2020 وفق تقريره النصف سنوي عن آفاق الاقتصاد العالمي. كذلك جاءت توقعات عدد من المؤسسات الدولية قاتمة عقب انفجار مرفأ بيروت، بحيث من المتوقع أن يسجل النمو الحقيقي للعام 2020 انكماشاً بنسبة 20.7% وفق EIU، -22.5% وفق Moody’s، -29.7% وفق IIF، -23.8% وفق Citi، -25.0% وفق Fitch و-25.0% وفق S&P. في المقابل، سجل مؤشر أسعار الاستهلاك ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 107% في شهر أيلول 2020 بالمقارنة مع أيلول 2019، ما يعني بأن البلاد وقعت في فخ الركود التضخمي.

في هذا السياق، فإن المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن مصرف لبنان، وهو متوسط مثقل لعدد من مؤشرات القطاع الحقيقي يعكس الأداء الماكرو اقتصادي، قد بلغ متوسطاً قدره 200.8 خلال النصف الأول من العام 2020، أي بتقلص سنوي نسبته 33.4% بالمقارنة مع النصف الأول من العام 2019. مع الإشارة إلى أن المؤشر الاقتصادي العام كان قد سجّل متوسط نمو بنسبة 1.7% خلال الفترات المماثلة من السنوات الخمس السابقة. في الواقع، يُعزى هذا الركود الاقتصادي في لبنان إلى انكماش الإنفاق الخاص، بشقيه الاستهلاكي والاستثماري. في المقابل، فإن التراجع الصافي في الإنفاق العام لم يساهم في تعويض الانكماش في الإنفاق الخاص، لا سيّما وأن الدولة اللبنانية دخلت حقبة من متطلّبات تقشفية صارمة مدفوعة بالاختلالات القائمة على صعيد ماليتها العامة.

إن أداء مؤشرات القطاع الحقيقي هذا العام عكس في الواقع المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن مصرف لبنان. فمن أصل 11 مؤشر للقطاع الحقيقي، تراجعت عشرة مؤشرات بينما ارتفع مؤشر واحد خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 بالمقارنة مع الأشهر التسعة الأولى من العام 2019. من بين المؤشرات التي سجلت نسب نمو سلبية نذكر عدد السياح (-78.4%)، عدد المسافرين عبر مطار بيروت (-75.4%)، عدد مبيعات السيارات الجديدة (-74.1%)، تسليمات الإسمنت (-54.4%)، الواردات (-50.0%)، حجم البضائع في المرفأ (-37.0%)، مساحة رخص البناء الممنوحة (-34.0%)، إنتاج الكهرباء (-14.7%)، الصادرات (-8.3%) وقيمة الشيكات المتقاصة (-4.1%). أما المؤشر الوحيد الذي سجّل نمواً إيجابياً فهو قيمة المبيعات العقارية (+112.7%) في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام السابق.  

على صعيد المالية العامة، أظهرت مؤشرات الأشهر السبعة الأولى من العام 2020 أن الإيرادات والنفقات العامة قد سجلت تراجعاً بنسب تتجاوز العشرة في المئة أدّت إلى تقليص طفيف في العجز المالي العام. في الواقع، انخفضت النفقات العامة بنسبة 19.1% في حين تراجعت الإيرادات العامة بنسبة 21.2% على أساس سنوي خلال الفترة، ما أدّى إلى انخفاض في العجز المالي العام بنسبة 12.9%. على الصعيد النقدي، تراجعت الاحتياطيات الأجنبية لدى مصرف لبنان بقيمة 11.3 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، وذلك في ظل تدخّل المصرف المركزي في سوق القطع، إضافةً إلى تمويل استيراد السلع الأساسية وبعض عمليات التصفية بين موجودات ومطلوبات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.

أما على صعيد القطاع المصرفي، فإن الودائع المصرفية والتي تستحوذ على ما نسبته 74% من الموجودات المصرفية، قد سجلت تقلصاً بقيمة 16.7 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 لتبلغ 142.2 مليار دولار في نهاية شهر أيلول. ويرتبط هذا التقلّص في الودائع المصرفية بتراجع كلّ من الودائع بالليرة بقيمة 10.0 مليار دولار والودائع بالعملات الأجنبية بقيمة 6.7 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأول من العام الحالي. أما على صعيد معدلات الفوائد، فقد سجلت تراجعاً ملحوظاً خلال العام، لتبلغ معدلات الفوائد على الودائع بالليرة 3.35% في نهاية أيلول مقابل 9.40% في تشرين الثاني المنصرم، في حين تراجعت معدلات الفوائد على الودائع بالدولار إلى 1.15% في نهاية أيلول من 6.61% في نهاية تشرين الأول.

فيما يتعلّق بأداء أسواق الرساميل اللبنانية، تعرّضت أسواق الأسهم والدين لضغوط جمّة. إذ سجلت أسعار الأسهم المدرجة في بورصة بيروت انكماشاً بنسبة 14.5% في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي على الرغم من التحسّن في أسعار أسهم "سوليدير" التي تضاعفت خلال تلك الفترة، وذلك في سياق نمو سنوي في حجم التداول بنسبة 32.3% من 140 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019 إلى 185 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020. في موازاة ذلك، ارتفع متوسط المردود على سندات اليوروبوند واتسعت هوامش مقايضة المخاطر الائتمانية بشكل ملحوظ خلال تلك الفترة وسط تخلّف الدولة عن سداد الديون السيادية.

في ما يلي تحليل مفصّل لتطورات القطاع الحقيقي والقطاع الخارجي والقطاعين العام والمالي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، في حين تتطرّق الملاحظات الختامية إلى تقييم متطلّبات إعادة هيكلة القطاع المصرفي في ظل الأزمة الاقتصادية المستفحلة.

 

السِّمات الظرفيّة القطاع الاقتصادي الحقيقي

الزراعة والصناعة: القطاعان الزراعي والصناعي تحت الضغوط في الأشهر التسعة الأولى

تعرّض القطاعان الزراعي والصناعي للضغوط خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ الفصل الأخير من العام 2019 والإقفال العام الذي فرضه انتشار وباء كورونا.

في ما يخصّ القطاع الزراعي، أعلن مركز الأبحاث والدراسات الزراعية (CREAL) أن الإنتاج الزراعي معرّض للانهيار إذا لم يحصل المزارعون على دعم من السلطات. فهذا المركز، الذي يجمع معطيات حول القطاع الزراعي، يتوقّع تراجع الإنتاج الزراعي المساهم بحوالي 40% من إجمالي الناتج المحلّي. وقد تشهد بعض المحاصيل الزراعية انخفاضاً في قيمتها بنسبة 70%، وبعضها الآخر بما يزيد عن 50% مقارنةً مع محاصيل العام 2018. ويصبح الوضع مقلقاً للغاية حين يصيب هذا الانخفاض السلع الغذائية الأساسية كالبصل والبطاطا التي هي من المنتجات الأكثر تأثّراً. تجدر الإشارة هنا إلى أن التراجع الملحوظ لوفرة المنتجات الزراعية قد يتأتّى مباشرةً من التطورات داخل القطاعين المصرفي والمالي.

في الواقع، انخفضت الواردات الزراعية بشكل ملحوظ (-29,4% في الأشهر الثمانية الأولى) بينما زادت الصادرات (+21,8%). إن القطاع الزراعي اللبناني مهم جداً لتأمين الكفاية الذاتية وللحدّ من الحاجة الى استيراد السلع الغذائية، ما قد يقلّص الحاجة الى العملات الأجنبية.

أما الصادرات والواردات الصناعية فقد تراجعت في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2020، وهو ما يعزى بشكل خاص إلى صعوبة استيراد المواد الأولية المستخدمة في إنتاج السلع المصدَّرة وتراجع قيمة العملة الوطنية، ما جعل مجمل الواردات والصادرات عرضةً للضغوط. فقد تراجعت الواردات الصناعية بما يقارب 69,0% في ما يخصّ بعض المنتجات كالمعادن والمنتجات المعدنية. كما تراجعت الصادرات من كلّ السلع تقريباً، ولكن على الأخصّ من المنتجات النفطية (-68,6%).

لا ريب في أن القطاعين الزراعي والصناعي سوف يستفيدان من الإصلاحات الاقتصادية العامة، ومن تلك التي قد تطالهما مباشرةً. فالتحسّن على مستوى هذين القطاعين من شأنه أن يؤمّن شيئاً من الكفاية الذاتية وأن يحدّ من التبعيّة حيال الواردات.

 

البناء: جانب الطلب في القطاع العقاري يسجل ارتفاعاً هذا العام

إن التطورات التي شهدها لبنان في السنة المنصرمة تعزّز النظرة الى القطاع العقاري كملاذ آمن. فالقطاع يسجّل اليوم نهوضاً ملموساً لا يمكن أن يستمرّ إلاّ إذا انحسرت الضبابيّة في الأجواء العامة. فما أن اندلعت ثورة تشرين الأول حتى أخذ المستثمرون يبحثون عن استثمارات آمنة، وكان من الطبيعي أن يفكّروا في القطاع العقاري ذاك أن العقار قد يحافظ على قيمة استثماراتهم.

في التفاصيل، ومن جانب الطلب، ارتفع عدد المبيعات العقارية من 36,952 عملية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019 إلى 55,108 عمليات في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، وفق آخر الإحصاءات الصادرة عن دائرة السجل العقاري. كذلك، ارتفعت قيمة المبيعات العقارية بنسبة 112,7% على أساس سنوي لتبلغ 10,077 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، بحيث ارتفع متوسط قيمة الصفقة العقارية من 128,228 دولاراً الى 182,860 دولاراً بين الفترتين.

وقد ظلّت بيروت تستأثر بالحصة الأكبر من إجمالي قيمة المبيعات العقارية (34,1%)، تلتها بعبدا (17,3%)، ثم المتن (17,0%)، فكسروان (12,0%)، فلبنان الجنوبي (8,3%)، فلبنان الشمالي (4,1%)، فالبقاع (3,1%)، فالنبطية (2,8%). يضاف الى ذلك أن معظم المناطق سجّلت زيادة في قيمة المبيعات العقارية، غير أن الزيادات الأبرز جاءت كالآتي، كسروان (+168%)، بيروت (+127%) وبعبدا (+112%). في موازاة ذلك، ارتفعت قيمة الرسوم العقارية بنسبة 105,7% لتصل الى 448,0 مليون دولار. أما عدد المبيعات العقارية للأجانب فقد ازداد بنسبة 2,4% على أساس سنوي ليبلغ 776 عملية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020.

أما من ناحية العرض، فإن المساحة الإجمالية لرخص البناء الجديدة، والتي تشكّل مؤشّراً على حركة البناء المستقبلية، استمرّت في الانحسار. فإحصاءات نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس تبيّن أن المساحة الإجمالية لرخص البناء الممنوحة حديثاً بلغت 3,350,129 متراً مربّعاً في الشهر التسعة الأولى من العام 2020، مقابل 5,079,173 متراً مربّعاً في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019، أي بانخفاض نسبتُه 34,0% على أساس سنوي (بعد تراجعها بنسبة 27,3% في الفترة ذاتها من العام 2019). ويبيّن التوزّع الجغرافي لهذه الرخص أن الانخفاض أصاب معظم المناطق، إلاّ أن بيروت والبقاع سجّلتا أعلى نسب من التراجع (-80,8% و–39,5% على التوالي). ولا يزال جبل لبنان يستأثر بحصة الأسد من مجموع مساحات الرخص الممنوحة حديثاً في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 (33,2%)، يليه لبنان الجنوبي (23,5%)، ثم لبنان الشمالي (19,6%)، فالنبطيّة (12,8 %)، فالبقاع (8,9%) وبيروت (2,0%).

وتفسَّر التطورات الحاصلة على مستوى العرض بوجود مخزون من العقارات السكنية برسم البيع تراكم على مرّ السنوات القليلة الماضية، وسوف يستغرق تصريفه بعض الوقت. ومع أن ازدياد المبيعات العقارية أخذ يقلّل من حجم هذا المخزون، إلا أن هذا الأخير لا يزال كبيراً نسبياً، ولا بدّ من تصريفه قبل أن يعاود المقاولون التفكير في إطلاق مشاريع جديدة.

في الخلاصة، إن الطلب العقاري شهد مزيداً من الارتفاع في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي بينما كان العرض العقاري متباطئاً. وعليه، من الواضح أن القطاع العقاري يبقى مركز اهتمام المقيمين والمغتربين، وأنه يظلّ على الدوام وسيلة تنويع للاستثمارات.

 

1-1-3- التجارة والخدمات: القطاع الثالث يعاني من تداعيات وباء كورونا وانفجار مرفأ بيروت

يعاني القطاع الثالث من تأثير أحداثٍ عدّة وقعت خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020. فتفاقم الأزمة الاقتصادية، وهبوط قيمة الليرة اللبنانية في السوق السوداء، وانتشار وباء كورونا والانفجار في مرفأ بيروت كلّها تركت عواقب وخيمة على أداء القطاع الذي كان واهناً أصلاً.

فمرفأ بيروت، الذي أصيب بأضرار جسيمة جرّاء انفجار 4 آب، شهد تراجعاً في عائداته بنسبة 44,5% على أساس سنوي لتبلغ 84,8 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020. في موازاة ذلك، انخفض عدد الحاويات في المرفأ بنسبة 43,9% على أساس سنوي ليبلغ 330,717 حاوية، كما انخفض عدد البواخر الراسية في المرفأ بنسبة 23,5% ليبلغ 1,024 باخرة. أما حجم البضائع في المرفأ، فانخفض بنسبة 37,0% ليبلغ 3,267 ألف طن. كما تراجعت عمليات المسافنة بنسبة 31,3% لتطاول 256,790 حاوية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، بعد ارتفاع بنسبة 15,6% في الفترة ذاتها من العام 2019.

وتُبيّن آخر الأرقام الصادرة عن وزارة السياحة أن عدد السيّاح انخفض بنسبة 78,4% في النصف الأول من السنة الجارية (عقب ارتفاعه بنسبة 8,3% في الفترة ذاتها من العام 2019). في الواقع، بلغ عدد السيّاح 199,722 سائحاً في النصف الأول من العام الحالي، مقابل 923,820 سائحاً في النصف الأول من العام 2019. من الواضح أن القطاع السياحي سجّل أداءً سلبياً خلال تلك الفترة، غير أن تراجعه الأكبر كان في الفصل الثاني من السنة نتيجة الحجر الصحي المفروض في مواجهة وباء كورونا.

وفي ما يخصّ حركة المطار، سجّل إجمالي عدد المسافرين عبر المطار انخفاضاً بنسبة 75,4% على أساس سنوي في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، وفق آخر الأرقام الصادرة عن مطار رفيق الحريري الدولي. كذلك انخفض عدد الرحلات الجوية بنسبة 65,6% على أساس سنوي. أما حجم البضائع العابرة في المطار فتراجع بنسبة 33,8%. وبالتفصيل، انخفض عدد المسافرين القادمين بنسبة 76,8% وعدد المسافرين المغادرين بنسبة 74,0% ليبلغا 807,949 مسافراً و915,823 مسافراً على التوالي. أما المسافرون العابرون فانخفض عددهم من 36,759 الى 32,892 راكباً بين الفترتين.

في المنحى ذاته، انخفض عدد رحلات الطيران القادمة بنسبة 65,6% إسوةً بعدد الرحلات المغادرة، ليبلغ الأول 9,762 رحلة والثاني 9,753 رحلة في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية. أما حجم البضائع المستوردة والعابرة للمطار فتراجع بنسبة 44,8% ليبلغ 21,401 ألف طن فيما تراجع حجم البضائع المصدَّرة والعابرة للمطار بنسبة 19,1% ليبلغ 23,514 ألف طن. ولا شكّ في أن حركة المطار تأثّرت بالأزمة الاقتصادية وبانتشار وباء كورونا وتداعيات الانفجار في مرفأ بيروت.

الى ذلك، فإن القيمة الإجمالية للشيكات المتقاصة، والتي تشكّل مؤشّراً ثانوياً على الإنفاق الإجمالي في الاقتصاد المحلي، انخفضت بنسبة 4,1% على أساس سنوي، متراجعةً من 42,398 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019 الى 40,667 مليون دولار في الفترة ذاتها من العام 2020، حسب إحصاءات مصرف لبنان. ثم أن قيمة الشيكات المحرَّرة بالليرة بلغت 21,793 مليار ليرة لبنانية (-10,4%)، فيما بلغت قيمة الشيكات المحرّرة بالعملة الأجنبية 26,211 مليون دولار (-0,2%). توازياً، بلغ العدد الإجمالي للشيكات المتقاصّة 4,490,413 شيكاً مقابل 7,791,506 شيكات في الفترة ذاتها من العام 2019، أي بتراجع نسبتُه 42,4% على أساس سنوي. وعليه، يكون متوسط قيمة الشيك المتداول في المقاصة قد ارتفع بنسبة 66,4% ليبلغ 9,056 دولاراً.  في المقابل، بلغت قيمة الشيكات المرتجعة 767 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، مقابل 1,049 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019، فيما انخفض عدد هذه الشيكات بنسبة 50,8% على أساس سنوي، وتحديداً من 196,153 الى 96,435 شيكاً مرتجعاً. ومن جرّاء ذلك، تكون نسبة قيمة الشيكات المرتجعة إلى إجمالي قيمة الشيكات المتقاصّة قد انخفضت من 2,5% الى 1,9%، فيما انخفضت نسبة عدد الشيكات المرتجعة إلى إجمالي عدد الشيكات المتقاصّة من 2,5% الى 2,1%.

ختاماً، من الواضح أن الانفجار في مرفأ بيروت قد جاء بعد سلسلة أحداث سلبية تخلّلتها السنة الحالية وأثّر على أداء قطاع التجارة والخدمات. الأضرار التي أصابت البنية التحتية مكلفة جداً على صعيد إعادة إعمار وترميم المنازل والمؤسّسات. وفيما تبدو أعمال الترميم جارية، لا بدّ من أن تكون لهذه الكارثة تداعيات سلبية على الاقتصاد اللبناني عموماً وعلى القطاع الثالث بوجه خاص.

 

1-2- القطاع الخارجي: تقلّص عجز الميزان التجاري بنسبة 59% في الأشهر الثمانية الأولى من السنة

في الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري، سجّل القطاع الخارجي تراجعاً صافياً في عجز الميزان التجاري بنسبة 59% على أساس سنوي، وقد تراجع حجم هذا العجز من 11,4 مليار دولار الى 4,7 مليار دولار حسب الأرقام الرسمية الصادرة عن السلطات الجمركية. نجم ذلك عن انخفاض كلّ من الواردات بنسبة 50,0% والصادرات بنسبة 8,3% في الأشهر الثمانية الأولى من العام. وعليه، انخفضت القيمة الإجمالية للصادرات والواردات بنسبة 43,7%، فيما بلغت نسبة الصادرات إلى الواردات 32,7% خلال تلك الفترة، مقابل 17,8% في الفترة ذاتها من العام 2019.

عليه، تحتاج البلاد الى مزيد من الجهود المقرونة بتدابير جديدة ملموسة للحدّ من الاختلالات الخارجية الكبيرة، ولا سيّما العجز المتزايد في ميزان المدفوعات في ظلّ انحسار التدفقات المالية الوافدة. من هنا يتعيّن على السلطات القيام بالإصلاحات البنيوية الضرورية لتفعيل الإنتاجية المحلّية ولمعالجة الاختلالات الخارجية والتخفيف من نقاط الوهن الرئيسية التي يعانيها لبنان.

في التفاصيل، يبيّن توزّع الصادرات حسب أنواع السلع والمنتجات أن التراجع الأبرز بين فئات الصادرات الرئيسية سجلته الصادرات من الورق والمنتجات الورقية (-43,7%)، تلتها الصادرات من المنتجات البلاستيكية (-40,5%)، ثم من المنتجات الكيميائية (-23,3%)، ثم المعدّات والمنتجات الكهربائية (-13,4%)، فالمعادن والمنتجات المعدنية (-12,3%) في الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي. في المقابل، كانت الخضروات من أهم الفئات التي زادت صادراتها في هذه الفترة (+34,3%).

أما توزّع الصادرات حسب بلدان المقصد، فيُظهر أن الصادرات الى سورية هي التي عرفت التراجع الأكبر (-51,4% على أساس سنوي)، تلتها الصادرات الى الإمارات العربية المتحدة (-23,6%)، فإلى العراق (16,3%)، والمملكة العربية السعودية (-12,6%) والأردن (-11,1%). في المقابل، زادت الصادرات الى سويسرا بنسبة 21,8% تلتها الصادرات الى الولايات المتحدة الأميركية (+13,0%) خلال الفترة. تجدر الإشارة إلى أن الصادرات البريّة عبر سورية واصلت تراجعها (-36,3%)، بحيث انخفضت قيمتها من 204 مليون دولار الى 130 مليون دولار. في موازاة ذلك، انخفضت الصادرات عبر مرفأ بيروت بنسبة 4,1% فيما انخفضت الصادرات المرسَلة عبر المطار بنسبة 3,4% في الفترة نفسها.

في المقابل، يبيّن توزّع الواردات حسب أنواع السلع والمنتجات أن التراجع الأبرز بين الورادات الرئيسية في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2020، وعلى أساس سنوي، أصاب الواردات من السيارات والمركبات (-68,9%)، تلتها الواردات من المعادن والمنتجات المعدنية (-65,4%)، فمن المنسوجات والمنتجات النسيجية (-64,3%)، فمن المعدّات والمنتجات الكهربائية (63,0%)، ثم المنتجات البلاستيكية (-57,8%) والمنتجات النفطية (-56,3%). أما توزّع الواردات حسب بلدان المنشأ، فيُظهر أن تلك الآتية من الكويت شهدت التراجع الأكبر (-73,1%)، تلتها الواردات من روسيا (-68,1%)، ثم من اسبانيا (-63,8%)، والصين (62,7%)، وفرنسا (-60,2%) والولايات المتحدة الأميركية (-59,1%)، والمملكة المتحدة (-49,7%) وألمانيا (48,5%) بين الفترتين.

 

1-3-القطاع العام: تراجع الإيرادات والنفقات العامة بما يقارب العشرين بالمئة في الأشهر السبعة الأولى من العام

تُظهر إحصاءات المالية العامة للأشهر السبعة الأولى من العام 2020 أن الإيرادات والنفقات العامة انخفضت كلتاهما بنسب تقارب العشرين بالمئة، ما أدّى الى تراجع بسيط للعجز العام. فالنفقات الإجمالية انخفضت بنسبة 19,1% والإيرادات العامة انخفضت بنسبة 21,2% في الفترة المعنيّة، ما أدّى الى تراجع العجز العام بنسبة 12,9% على أساس سنوي. فقد انخفضت النفقات العامة خلال تلك الفترة بقيمة 1,8 مليار دولار، وذلك من 9,4 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2019 الى 7,6 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2020. ونتج ذلك بخاصة عن تراجع خدمة الدين جرّاء تخلّف الدولة عن سداد ديونها في شهر آذار الفائت. ذاك أن خدمة الدين تراجعت بنسبة 53,4%، من 3,0 مليار دولار الى 1,4 مليار دولار، وقد بلغت نسبة تراجع خدمة الدين بالعملات الأجنبية 81,8% وبالليرة اللبنانية 32,9% على أساس سنوي.

في المقابل، انخفضت الإيرادات العامة من 7,0 مليار دولار الى 5,5 مليار دولار بين الفترتين، أي بمقدار 1,5 مليار دولار. ونتج هذا الانخفاض بخاصة عن تراجع إيرادات الموازنة بقيمة 1,9 مليار دولار مقابل ازدياد إيرادات الخزينة بقيمة 0,4 مليار دولار. وقد نتج تراجع إيرادات الموازنة عن الأداء الماكرو اقتصادي السلبي الناجم عن الأزمة الاقتصادية الراهنة، وعن تداعيات انتشار وباء كورونا والهبوط الحادّ للواردات في ظلّ وهن الاستهلاك الخاص والاستثمار الخاص. ونشير الى أن الإيرادات الجمركية تراجعت بنسبة 33,0%، فيما تراجعت الإيرادات المحصّلة من الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 55,2% وعائدات قطاع الاتصالات بنسبة 56,5%. في المقابل، ارتفعت الإيرادات المتأتّية من الرسوم العقارية بنسبة 83,5% على أساس سنوي نتيجة الصفقات العقارية الملحوظة، باعتبار أن المستثمرين فضّلوا العقار لتدارك أي اقتطاع محتمل قد يطرأ على توظيفاتهم المالية.

إن انخفاض قيمة النفقات الإجمالية بمقدار أكبر نسبياً من انخفاض الإيرادات العامة أدّى الى تراجع طفيف للعجز العام، من 2,4 مليار دولار الى 2,1 مليار دولار. مع ذلك، ارتفعت نسبة العجز العام إلى النفقات الإجمالية من 25,7% الى 27,6% فيما ارتفعت أكثر أيضاً نسبة العجز العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بسبب التراجع الملحوظ الذي شهده الناتج المحلي الإجمالي هذه السنة.

بعدما كان الرصيد الأولي قد سجّل فائضاً بقيمة 0,6 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2019 (ما يعادل 6,2% من النفقات الإجمالية)، تحوّل الى عجز بقيمة 0,7 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام 2020 (9,3% من النفقات الإجمالية)، في إشارة الى عدم استدامة المالية العامة التي تتطلّب قدراً كبيراً من التصحيح المالي للحؤول دون المزيد من الانهيار النقدي في المستقبل.

من جرّاء ذلك، بلغ الدين العام الإجمالي 94,3 مليار دولار في آب 2020، أي بزيادة نسبتُها 9,2% مقارنةً مع آب 2019 و2,9% مقارنةً مع كانون الأول 2019. وقد ازداد الدين العام بالليرة اللبنانية بنسبة 9,8% مقارنة مع آب 2019 لتوازي قيمته 59,0 مليار دولار في آب 2020. أما الدين العام بالعملات الأجنبية، فقد زاد بنسبة 8,4% مقارنةً مع آب 2019 وبنسبة 4,4% مقارنةً مع كانون الأول 2019 ليصل الى 35,2 مليار دولار في آب 2020. في هذا السياق، وبعد تنزيل ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان والمصارف التجارية من مجموع الدين العام، يكون الدين العام الصافي قد ازداد بنسبة 9,4% مقارنةً مع آب 2019 وبنسبة 4,5% مقارنةً مع كانون الأول 2019 لتصل قيمته الى 84,9 مليار دولار في آب 2020.

 

1-4- القطاع المالي

1-4-1-  الوضع النقدي: ظهور عـدّة أسعار صرف في ظلّ تراجع احتياطيّات القطع الأجنبي

اتّسمت الأوضاع النقدية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 بتآكل الاحتياطيات السائلة بالنقد الأجنبي لدى مصرف لبنان، وبالإفراط في خلق النقد بالليرة اللبنانية، وبظهور أسعار صرف متعدّدة كما بتسجيل أول تراجعات في معدلات الفائدة منذ عشر سنوات.

لما كانت البلاد قد شهدت أسوأ أزمة اقتصادية ومالية منذ عقود عدّة، وبما أن المساعدة المالية الدولية الضرورية جداً لا تزال معلّقة بسبب الجمود السياسي القائم وغياب الإصلاحات التي طال انتظارها، فقد تقلّصت احتياطيّات النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان خلال تلك الفترة لتبلغ مستوى متدنّياً وحرجاً. فالموجودات الخارجيّة لمصرف لبنان انخفضت بقيمة 11,3 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية لتبلغ 25,9 مليار دولار في أيلول 2020، بما فيه سندات اليوروبوند السيادية المملوكة من المصرف المركزي والمقدّرة بقيمة 5,03 مليار دولار والتسهيلات المعطاة من هذا الأخير للمصارف اللبنانية. وقد أدّى ذلك الى تقلّص الاحتياطيات السائلة بالعملات الأجنبية الى ما دون 20 مليار دولار. وفي هذا السياق، أعلن حاكم المصرف المركزي عدم القدرة على استخدام الاحتياطي الإلزامي من النقد الأجنبي لتمويل بعض الواردات من السلع الأساسية والحيوية، ما أثار مخاوف من وقف وشيك لدعم هذه الأخيرة.

لقد أسفر تراجع احتياطيّات مصرف لبنان من القطع الأجنبي عن تفاوت بين سعر الصرف الرسمي للعملة الوطنية وسعرها في السوق السوداء، والى ظهور أسعار صرف متعدّدة. فكان أن تدهور بقوة سعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي في السوق السوداء خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة، وذلك بخاصة نتيجة الفقدان التام للثقة، والازدياد الملحوظ لكميّة النقد الوطني المتداول، وانحسار التدفقات المالية الوافدة، وتنقيد عجز المصرف المركزي واستمرار المخاوف المتعلّقة بالحكومة. وعليه، بلغ سعر الليرة اللبنانية أدنى مستوى لها (10,000 ليرة لبنانية للدولار الواحد) في السوق السوداء في مطلع تموز الفائت، بفعل تردّي الأوضاع الاقتصادية المحلّية ومن تعليق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. لكنّ الليرة استطاعت أن تستعيد عافيتها بعض الشيء بحيث بلغ سعرها 8500 ل.ل. للدولار الأميركي الواحد في أيلول 2020 ثمّ 7,000 ل.ل. للدولار في تشرين الأول 2020، إثر تحسّن الانطباع العام عقب تكليف رئيس وزراء جديد بتشكيل "حكومة مهمة" تتولّى الشروع في الإصلاحات السريعة التي من شأنها أن تفرج عن الدعم المالي الدولي الموعود للبنان. في الوقت ذاته، حدّدت نقابة الصرّافين سعر صرف الدولار الأميركي بما بين 3850-3900 ل.ل. وسمحت المصارف لزبائنها من أصحاب الحسابات بالدولار الأميركي بأن يسحبوا ودائعهم جزئياً بالليرة اللبنانية بسعر السوق (3900 ل.ل للدولار حالياً) لغاية 31 آذار 2021، حسب التعميم الوسيط الجديد الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 9 تشرين الأول 2020.

في ظلّ خلق النقد الملحوظ خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة، كما يعكسه نمو النقد المتداول بنسبة 125%، أي بما قيمته 13,180 مليار ليرة، فقد ظلّت فائدة من يوم ليوم مستقرّة على 3% في سوق النقد علماً أنه تمّ تخفيض سعرها الرسمي بمقدار 200 نقطة أساس في وقت سابق من السنة ليبلغ 1,90%.

في موازاة ذلك، بلغت الاكتتابات الإجمالية للجهاز المالي (المصارف ومصرف لبنان) بسندات الخزينة بالليرة 9,032 مليار ليرة في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 مقابل 12,100 مليار ليرة في الفترة ذاتها من العام 2019، أي بتراجع يقارب 25,4% على أساس سنوي، علماً أن السندات من فئات 5 و7 و10 سنوات التي تعطي مردوداً أعلى تستأثر بثلثيْ الاكتتابات الإجمالية. وبالتوازي، واصل مصرف لبنان تأدية دور الوساطة بين الدولة والمصارف، كما يدلّ على ذلك نمو محفظته من سندات الخزينة بالليرة بقيمة 2,057 مليار ليرة. وفي ما يخصّ معدلات الفائدة، شهدت سندات الخزينة بالليرة أول تراجع لها في عشر سنوات (بمقدار 1,80% إلى 3,00%).

في الوقت ذاته، تقلّصت المحفظة الإجمالية لشهادات الإيداع بالليرة من 48,043 مليار ليرة في كانون الأول 2019 الى 45,208 مليار ليرة في أيلول 2020، أي بانخفاض قدره 2,835 مليار ليرة هو الأول من نوعه منذ العام 2016.

إن تشكيل "حكومة مهمّة" من شأنه أن يمهّد الطريق أمام دعم مالي دولي تحتاجه البلاد، يشمل بصورة خاصة أموال "سيدر" ومساعدة مالية محتملة من صندوق النقد الدولي، ما يسهم في استعادة الثقة وفي تمكين مصرف لبنان من زيادة احتياطيّاته من النقد الأجنبي، مع الزوال التدريجي لأسعار الصرف المتعدّدة.

 

1-4-2- النشاط المصرفي: انحسار متواصل لمحفظة التسليفات مع تراجع معدلات الفائدة الدائنة والمدينة الى مستويات متدنية قياسيّة

لا يزال القطاع المصرفي اللبناني يعمل في ظروف تشغيلية بالغة الصعوبة، في ظلّ استمرار التجاذبات السياسية وإحجام السلطات العامة عن حلّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعانيها البلاد. وقد انخفض إجمالي موجودات المصارف العاملة في لبنان، والذي يقيس نشاط القطاع، بنسبة 11,2% في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية ليبلغ في أيلول 2020 ما يعادل 192,6 مليار دولار (على أساس سعر الصرف الرسمي) جــرّاء تراجع الودائع والتسليفات.

فقد انخفضت ودائع الزبائن بنسبة 10,5% لتبلغ ما يعادل 142,2 مليار دولار في أيلول 2020. ذاك أن المودعين سحبوا موجوداتهم نقداً بالليرة حسب السقوف الشهرية المحدّدة من قبل المصارف و/أو سعوا الى تسديد قروضهم باستخدام حساباتهم الدائنة. وبالفعل، يمكن أن تُعزى نسبة 67% من تراجع الودائع هذا العام الى تقلّص محفظة التسليفات.

في التفاصيل، استأثرت الودائع بالليرة بنسبة 60% من إجمالي تراجع الودائع في ظلّ مخاوف من انهيار العملة الوطنية فيما تعود النسبة الباقية (40%) الى انخفاض الودائع بالعملات الأجنبية جرّاء وقف السحوبات بالنقد الأجنبي منذ شهر نيسان الماضي. وعليه، شهدت نسبة دولرة الودائع المزيد من الارتفاع لتصل الى 80,2% في أيلول 2020، وهو أعلى مستوىً لها في 28 سنة، متخطّيةً الحدّ الأقصى الذي بلغته خلال الحرب في تموز 2006. أخيراً، يعود حوالي 70% من تقلّص قاعدة الودائع هذه السنة الى الزبائن المقيمين مقابل 30% لغير المقيمين.

كذلك، سعت المصارف الى الحدّ من تعرّضها لمخاطر القطاع الخاص، في الوقت الذي شاء العديد من الزبائن المدينين تسديد ديونهم المصرفية في هذه الأوضاع الضبابيّة. فشهدت محفظة التسليفات المصرفية تقلّصاً ملحوظاً بنسبة 22,4% ليبلغ مجموعها 38,6 مليار دولار في أيلول 2020. ويُعزى معظم هذا التقلّص الى تراجع التسليفات بالنقد الأجنبي، ما أدّى الى انخفاض إضافي لنسبة دولرة التسليفات التي بلغت في أيلول 2020 أدنى مستوى لها، هو 61,5%. وتُعزى حوالي 90% من تقلّص محفظة التسليفات إلى الزبائن المقيمين.

في موازاة ذلك، وبحسب توجيهات مصرف لبنان، واصلت المصارف خفض معدلات الفائدة الدائنة والمدينة، بحيث انخفض متوسط معدلات الفائدة الدائنة بالليرة بمقدار 401 نقطة أساس هذه السنة ليبلغ 3,35% في أيلول بينما انخفض متوسط معدلات الفائدة الدائنة بالدولار الأميركي بمقدار 347 نقطة أساس ليبلغ 1,15%، ويقترب من معدلات الفائدة المرجعية الدولية علماً أن الهامش بين متوسط معدلات الفائدة الدائنة بالدولار ومعدل ليبور بالدولار لثلاثة أشهر قد بلغ أدنى مستوى له في 12 سنة (92 نقطة أساس). وعلى النحو ذاته، انخفض متوسط معدلات الفائدة المدينة بالليرة بمقدار 120 نقطة أساس ليبلغ 7,89% وانخفض متوسط معدلات الفائدة المدينة بالدولار الأميركي بمقدار 330 نقطة أساس ليبلغ 7,54% في أيلول 2020.

في ما يخصّ السيولة المصرفية، تراجعت التوظيفات لدى المصارف في الخارج بمقدار 2,3 مليار دولار خلال تلك الفترة، وذلك بخاصة نتيجة انخفاضها الملحوظ في الأشهر القليلة الأولى من العام 2020. ثم شهدت استقراراً نسبياً ملحوظاً منذ شهر أيار الماضي، علماً أنها سجّلت زيادة طفيفة في أيلول المنصرم، وهي الأولى منذ اندلاع الأزمة المالية المحلّية.

كذلك، سجّلت محفظة سندات اليوروبوند السيادية المملوكة من المصارف اللبنانية انخفاضاً بقيمة 3,8 مليار دولار هذه السنة، لتبلغ 10,0 مليار دولار في أيلول 2020. ونتج ذلك بخاصة عن بيع سندات يوروبوند من قبل المصارف قبل الإعلان عن تخلّف الدولة عن سداد دينها في وقت سابق من السنة. أخيراً، بلغ إجمالي الأموال الخاصة 18,5 مليار دولار في أيلول 2020 مقابل 20,7 مليار دولار في كانون الأول 2019. ويُعزى هذا الانخفاض بقيمة 2,2 مليار دولار الى الخسائر الواضحة المتراكمة على القطاع جرّاء الأزمة الراهنة التي تعانيها البلاد.

باختصار، تواصل المصارف العمل في ظروف تشغيلية صعبة وغامضة، وهي تركّز جهودها على تكوين مؤونات على خسائر محتملة متّصلة بمحافظ تسليفاتها للقطاع الخاص وبمحافظ سندات اليوروبوند السيادية اللبنانية الموجودة في حيازتها، مع السعي الدؤوب الى تعزيز رسملتها (بنسبة إجمالية قدرها 20%) والى بلوغ مستويات السيولة (3% من الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف المراسلة في الخارج) المحدّدة من قبل مصرف لبنان، من الآن حتى شباط 2021.

 

1-4-3- البورصة وسوق السندات: هبوط الأسعار في أسواق الرساميل اللبنانية جرّاء الأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة

هبطت أسعار الأسهم وسندات الدين اللبنانية إثر تخلّف الدولة اللبنانية في آذار 2020 عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية للمرّة الأولى في تاريخها، وفي ظلّ تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغياب الإصلاحات الضرورية، ما ألقى بظلال من الشكّ حول قدرة لبنان على اجتذاب الرساميل من الخارج.

فقد استمرّت أسعار البورصة في التراجع طوال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، كما يظهره تقلّص مؤشّر أسعار الأسهم في بورصة بيروت بنسبة 14,5% (-16,9% في 2019)، ذاك أن لبنان شهد أسوأ أزمة اقتصادية ومالية منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، وأن الضبابية ظلّت مستمرّة حيال تشكيل "حكومة المهمّة" التي من شأنها أن تُخرج البلد من أزماته المتعدّدة وأن تطلق سلسلة إصلاحات طال انتظارها للإفراج عن دعم مالي دولي ضروري جداً. ويُظهر التوزّع القطاعي لأداء البورصة أن أسهم القطاع المصرفي كانت الأكثر تأثيراً على الأسعار في غضون الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، حيث سجّل التراجع الأبرز (-71,7%). في المقابل، أثارت أسهم سوليدير من الفئتين "أ" و "ب" اهتمام المستثمرين، الذين فضّلوا الأسهم العقارية بحثاً عن ملاذ آمن. فكان أن ارتفعت أسعارهما بما يزيد عن الضعف، وتحديداً من 7,30 دولار و7,29 دولار على التوالي في كانون الأول 2019 الى 14,96 دولار و14,90 دولار على التوالي في أيلول 2020. وحقّقت الأسهم الصناعية مثل أسهم شركة هولسيم لبنان والإسمنت الأبيض مكاسب بمقدار +30,3% و+46,2% على التوالي في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020.

وأدّت الأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة الى تقلّبات شديدة في الأسعار، ما رفع تقلّبية أسعار الأسهم، التي تُـقاس بنسبة الفارق المعياري للأسعار إلى على متوسط الأسعار، إلى 31,3% في الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 مقابل 6,0% في الفترة ذاتها من العام 2019.

وبسبب هبوط الأسعار على نحو ملحوظ وإدراج أسهم إضافية لبنك عوده ش.م.ل.، تراجع حجم الرسملة البورصية بنسبة 11,9% في الأشهر التسعة الأولى من السنة، بانخفاضه من 7,540 مليون دولار في كانون الأول 2019 الى 6,642 مليون دولار في أيلول 2020. وبلغت القيمة الإجمالية لعمليات التداول في بورصة بيروت 185,1 مليون دولار في الشهر التسعة الأولى من العام 2020 مقابل 139,9 مليون دولار في الفترة ذاتها من العام 2019، أي بنمو نسبتُه 32,2% على أساس سنوي، علماً أن أسهم سوليدير استأثرت بحصة الأسد (74,4%) من نشاط البورصة. ومن جرّاء ذلك، بلغت نسبة حجم التداول السنوي إلى الرسملة البورصية 3,7% مقابل 2,5% في الأشهر التسعة الأولى من العام 2019.

توازياً، شهدت سوق سندات اليوروبوند هبوطاً قوياً في أسعارها عقب أول تخلّف عن سداد دين الدولة بالعملات الأجنبية في 9 آذار 2020، وبعد الفشل إزاء العقبات التي واجهت تشكيل "حكومة مهمّة" تقوم بالإصلاحات البنيوية المنتظرة منذ مدة طويلة من أجل تسريع الدعم الدولي الملحّ والحيوي، إضافةً الى رهانات على خسائر كبيرة لحمَلة سندات اليوروبوند اللبنانية. في هذا السياق، أعلنت وكالة "موديز" في أيلول 2020 أن التصنيف السيادي للبنان (C)، الذي هو الأدنى على سلّم التصنيف الخاص بها، يعكس توقّعات بخسائر لحمَلة سندات اليوروبوند اللبنانية تفوق 65%، مضيفةً أن هذا التصنيف غير قابل للتعديل قبل إعادة الهيكلة المطلوبة، بالنظر الى جسامة التحدّيات الماكرو اقتصادية، المالية والاجتماعية، والى تقديراتها لخسائر مهمّة جداً.

لقد اتّجهت أسعار سندات اليوروبوند السيادية اللبنانية نحو مستويات تاريخية متدنّية في أيلول 2020. فأسعار سندات اليوروبوند السيادية التي تستحق بين 2020 و2037 راوحت بين 14,50 و17,50 سنتاً للدولار الواحد في أيلول 2020، مقابل 44,75-87,13 سنتاً للدولار الواحد في كانون الأول 2019. أما متوسط المردود المثقّل على سندات اليوروبوند اللبنانية، فقد ارتفع من 30% في كانون الأول 2019 الى 50% في أيلول 2020، ما عدا المردود على سندات اليوروبوند التي تستحقّ في عامَيْ 2020 و2021.

كل الأنظار شاخصة نحو تشكيل حكومة " إنقاذ" تستطيع المباشرة بإصلاحات سريعة واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ما قد يمهّد الطريق أمام دعم مالي دولي لا غنى عنه وأمام مباحثات بنّاءة مع حمَلة سندات اليوروبوند.

 

الخلاصة: في إعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني

شكّل القطاع المصرفي اللبناني العمود الفقري للاقتصاد اللبناني على مدى العقود الثلاثة الماضية وذلك قبيل اندلاع الأزمة المالية الأخيرة. فقد ساهم القطاع المصرفي بشكل فعّال في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، ووفّر ما نسبته 60% من الاحتياجات التمويلية للقطاع العام، و30% من الإيرادات الضريبية و50% من تمويل التجارة الخارجية، بالإضافة إلى التمويل الديناميكي للقطاع الخاص بمحفظة تسليفات إلى الناتج المحلي الإجمالي تتجاوز عتبة الـ100%، ناهيك عن توظيفه ما يقارب 26,000 موظفاً من ذوي المهارات العالية، يشكّلون مدماك الطبقة الوسطى في لبنان.

أين نحن اليوم؟ بعد مرور عام على 17 تشرين الأول 2019، من الواضح أن الظروف التشغيلية للقطاع المصرفي قد تردّت بشكل ملحوظ. إذ تراجع عامل الثقة خصوصاً عندما تعثّرت الدولة في سداد سنداتها من اليوروبوند والتي تستحوذ منها المصارف على 10 مليارات دولار. كما شهد القطاع المصرفي انكماشاً في الودائع بنحو 30 مليار دولار منذ بداية العام 2019 (حوالي 20%) ترافق مع تقلّص في محفظة التسليفات بأكثر من 20 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وهو ما يمثّل ثلثي انكماش الودائع المصرفية. في موازاة ذلك، تكبّد القطاع المصرفية خسائر لاحقة، حيث انخفضت الأموال الخاصة بنحو ملياري دولار خلال العام الماضي.

في ظل هذا المناخ، ما يزال القطاع المصرفي اليوم لا يحتاج إلى تعويم خارجي، فالمصارف تحتاج فقط إلى أن تسدّد الدولة اللبنانية مستحقاتها. وإذا حصل ذلك، فإن وضعية السيولة لدى المصارف من شأنها أن تتعزّز مع قيام الدولة بسداد جزء من السيولة المستحقة للمصارف. ولكن المطلوب أولاً وقبل كل شيء أن يكون لدى السلطات العامة والنظام المالي رؤية مشتركة للخسائر المالية المحققة والمرتقبة. بعد ذلك، ينبغي أن يتحوّل التركيز إلى المطالبة باسترداد جزء من تلك الخسائر وتوزيع الباقي على كافة العملاء الاقتصاديين بطريقة عادلة ومنصفة.

في الواقع، من غير العادل أن يُطلب من المصارف تحمّل كل التكاليف المتراكمة على مدى سنوات من سوء إدارة الدولة. وبالتالي يجب أن يكون هناك آلية عادلة لتقاسم الأعباء حيث تحتاج الدولة إلى استخدام العديد من أدواتها لتتحمّل جزء ملحوظ من هذه الخسائر، على سبيل المثال خصخصة بعض مؤسساتها أو المبادلة المحتملة للأصول الحكومية التي يمكن توظيفها في صندوق سيادي يُدار على مدى سنوات لمعالجة بعض هذه الخسائر. من هنا، فإن القطاع المصرفي مستعدّ للتخلي عن سنوات من الدخل المحتمل، لكن مع الحاجة إلى الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأموال الخاصة لتمكين القطاع المصرفي في غضون عام أو عامين من أن يدعم استراتيجية النهوض الاقتصادي في البلاد والذي سيكون مبنيّاً على إطار ماكرو اقتصادي سليم وقطاع مصرفي متين وعلى ثقة ينبغي أن تُستعاد مع مرور الزمن.

على مستوى الإطار التنظيمي، المطلوب أولاً وقبل كل شيء توحيد إجراءات ضبط حركة الأموال بموجب مشروع قانون Capital Control تعدّه الحكومة العتيدة ويعتمده مجلس النواب، من أجل ضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع الزبائن وخفض الاستنسابية بين المصارف والحدّ من المخاطر القانونية إزاء القطاع المصرفي.

هذا وفي ظلّ وجود قطاع مصرفي أكبر بخمس مرات من الناتج المحلي الإجمالي، من الطبيعي القول بأن بُعد القطاع المصرفي اللبناني ضخم مقارنةً ببُعد الاقتصاد الوطني. في الواقع، يعتبر القطاع المصرفي اللبناني ثالث أكبر قطاع في العالم من حيث نسبة الأصول المصرفية إلى الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإن حجم هذه الأصول المصرفية أكبر مما هو مطلوب لتحقيق تمويل الاقتصاد المنتج. من هنا، فإن إجمالي أصول القطاع المصرفي في لبنان يجب أن يتقلّص إلى حوالي 150% من الناتج المحلي الإجمالي بُعيد إعادة الهيكلة تماشياً مع البلاد ذات البنى الاقتصادية المشابهة للبنان.

في هذا السياق، يجدر الذكر أنه وفي ظل هذه الظروف الراهنة، قد تضطر المؤسسات المصرفية الأكثر تضرراً أو الغير قادرة على رفع رأسمالها وفقاً لمتطلّبات مصرف لبنان إلى الاندماج مع مؤسسات مصرفية أخرى، الأمر الذي من شأنه أن يضمن تقليص عدد المصارف في القطاع. من الصعب في هذه المرحلة تحديد عدد المصارف التي ستبقى على وجه التحديد، ولكن المطلوب أولاً هو تخفيض شبكة الفروع بنسبة 30% إلى 40% والتي تبلغ اليوم حوالي 1,000 فرع في لبنان.

من الواضح أن بعض المصارف قد تجد صعوبة في التكيّف وتلبية المتطلبات في ظل هذا المناخ السائد حالياً، وسيتعيّن عليها الخروج من السوق، في حين أن مصارف أخرى ستكون قادرة على البقاء ومواصلة العمل، حتى لو كان ذلك يعني الاضطرار إلى بيع جزء من مؤسساتها التابعة في الخارج من أجل ضخّ سيولة كافية وبالتالي تعزيز رساميلها. الجدير بالذكر هنا أن عدد المصارف اللبنانية المتواجدة في الخارج يصل إلى 18 مصرفاً وذلك في 32 دولة عبر شبكة فروع مؤلفة من 329 فرعاً تدير أصولاً إجمالية تبلغ 37 مليار دولار.

في المقابل، إن إصلاح النظام المصرفي بجهود إعادة الهيكلة لتعزيز وضعه المالي وحوكمته وقدرته على مواجهة الضغوط من شأنه أن يحصّن الإطار الماكرو اقتصادي والمالي للبلاد. إن وجود قطاع مصرفي أصغر وأمتن من شأنه أن يعزّز الانتاجية وفعالية التكلفة ويمكن أن يستفيد أيضاً من زيادة التركيز على المكننة. إضافةً إلى ذلك، فإن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير ملحوظ على المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان. وبالمثل، فإن وجود قطاع مصرفي موثوق به هو المفتاح لإعادة ربط لبنان مع أسواق الرساميل العالمية.

عند التطرّق إلى المستقبل المصرفي في لبنان، لا يمكن فصله عن مستقبل الاقتصاد الوطني بشكل عام بمكوناته المختلفة من القطاع المالي والقطاع العام والقطاع الخارجي والقطاع الحقيقي. عليه، يحتاج لبنان بشكل وشيك إلى الشروع في استراتيجية للخروج من الأزمة تضعها حكومة عتيدة توحي بالمصداقية من شأنها إطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية المطلوبة. ختاماً، ليس هناك شك في أن الاختلالات الهيكلية والدورية السائدة التي تعاني منها البلاد مستفحلة، إلا أن المخارج ما زالت ممكنة إذا ما توفّرت الإرادة وإذا تم اتخاذ خيارات وتدابير جذرية دون أي تأخير تمكّن لبنان من الخروج من أزمته المستفحلة مع الوقت".

 

* * *

إخترنا لك

Beirut, Lebanon
oC
23 o